ذكريات عن شارع الرشيد وأشياءه

فوزي عبد الرحيم السعداوي

-1-

في النصف الثاني من الخمسينيات كنت في الثامنة من عمري طفلا نحيفا جدا خجولا لا املك اي ثقة بنفسي لكني بنفس الوقت كنت شديد الملاحظة كثير الاهتمام بالامور العامة قليل الكلام شديد الانصات وهي صفة كان لها ان تلعب دورا مهما في حياتي سمحت لي بالاهتمام بتفاصيل كثيرة وحفظها في ذاكرتي، ان الكثيرين لايدركون اهمية الانصات كصفة حضارية بخلاف الغالبية التي تميل للكلام مضيعة فرصة للتعلم والحصول على المعلومات..كما ذكرت سابقا فقد كان مصدر رزق عائلتي هو مكتبة صغيرة لكنها شهيرة تقع في موقع هام قرب مصرف الرافدين الرئيسي وفي بداية شارع السموال وعلى بعد امتار من نفق الشورجة الذي نفذ لاحقا في ستينيات القرن الماضي،وقد كان لهذه المكتبة اهمية خاصة في تغيير شخصيتي واهتماماتي ولاحقا ثقافتي اذ توفرت لي الفرصة للقراءة بشكل لايتناسب مع عمري حتى اني استطيع القول ان ماقراته وتعلمته من المكتبة التي رافقت صباي وشبابي هو المصدر الاساسي لثقافتي السياسية..كان اهتمامي الاساسي ادبيا ليس لاني اردت ذلك ولكن لان ذلك كان المتوفر من المطبوعات في المكتبة لكني بالتدريج وجدت نفسي في خضم الشان السياسي من خلال المجلات التي كانت تاتي على شكل حصة معينة…كان ذلك الاهتمام المستجد بالسياسة على ايقاع اهتمامي ومراقبتي لوالدي الحالم المبحر في الشان العام..كنت اراقب ابي واقتفي ولعه بالشان العام واتنصت على حواراته مع زواره سواء في المكتبة او في البيت حيث كنت الابن الوحيد الذي يحضر جلساته مع اصدقاءه ربما بسبب هدوئي المفرط مما لايشكل ازعاجا للجلساء…كنت انظر واسمع بفضول شديد للحوارات متسائلا متى ساتمكن ان اتكلم مثله.

برغم هذا الوعي المبكر فقد كنت طفلا بريئا لا اقدر خطورة بعض الاحاديث السياسية فاقوم بنقلها غير مقدر للعواقب وهذا ما حصل مرة اظنها في العام ٥٦ او ٥٧ حين سمعت والدي واصدقائه يتحدثون عن الانقلاب وهي كلمة لك تكن مالوفة بل وخطرة لايجري تداولها الا في الاوساط السياسية فقمت بنقلها إلى زملائي في المدرسة وحين سمع المعلم سعيد الذي ظهر لاحقا بعد ثورة تموز ٥٨ انه شيوعي…استدعاني إلى مكان معزول وحقق معي عن الموضوع ثم حذرني تحت طائلة العقاب من اعادة ذكر الموضوع.

-2-

من الامور العالقة في ذاكرتي حوار بين والدي واصدقاءه الذين لا اتذكر شخوصهم او حتى عددهم لكني اتذكر انهم كانوا يتحدثون عن صديق لهم محكوم بالسجن بسبب الاختلاس… كانت كلمة اختلاس غريبة عني ولم افهمها في وقتها لكني اختزنتها لافهمها وافهم الموضوع بعد سنين طويلة، لم يك سجن الصديق هو المشكلة موضوع النقاش بل شيء اخر هو ان للصديق المسجون ثلاثة بنات توقف نصيبهم ولم يعد احد يتقدم للزواج منهن… مشكلة!! لم تعد قائمة في حياتنا المعاصرة فالمختلس الناجح هو مقصد ورمز للنجاح الان وليس كحظ صديق ابي التعيس الذي لم يكتفي القانون بمعاقبته فعاقبه المجتمع، كان ذلك في العام ١٩٥٧، لقد اذكت هذه الحوارات اهتمامي بالشان العام وطورت من ملكة الكلام والرواية والخيال اللازم لهما بعد ان كنت شديد الخجل عديم الثقة بالنفس.

كما ذكرت سابقا فان مكتبة والدي برغم صغرها الا انها كانت مشهورة بسبب موقعها وعلاقات والدي الواسعة كونه كان عضوا متقدما في الحزب الوطني الديمقراطي (زعيمه كامل الجادرجي) وهو ما كان يعني خيارات محددة في الكتب المعروضة ونوعية المطبوعات الرائجة والتي تحكم طبيعة علاقات الوالد، فقد كنا من المكتبات القليلة التي تعرض مجلتي التايم والنيوزويك باللغة الانكليزية حيث نسبة من مقتنيها من موظفي مصرف الرافدين القريب لا بل ان الاعداد كانت تحجز في ظروف مكتوب عليها اسم المقتني المفترض

..تصور موظفين يقتنون مجلات باللغة الانكليزية.

ماذا يعني ذلك؟ اولا انهم يجيدون اللغة الانكليزية، ثانيا اهتمامهم كبير وخارج اطار المحلية بالشان العام وثالثا انهم في بحبوحة تسمح لهم بهذا الهامش من الاهتمام ورابعا يعكس ذلك رقي البيئه التي تقدم لك هكذا موظف هو بالتاكيد ليس حالة منعزلة بل جزء من حالة عامة.

بالطبع كانت هناك مطبوعات اخرى وجودها ضروري للاغراض العملية والتجارية مثل المجلات المصرية حواء والكواكب وروز اليوسف وصباح الخير مع بعض المطبوعات اللبنانية كمجلة الصياد والاحد اضافة إلى مجلة الحياة في اميركا والنسخة العربية من المختار من ريدرز دايجست وهما اللذين كانا موضع اهتمامي ومتابعتي.

-3-

تواصلا في الحديث عن المكتبة لانها تعبر بدرجة كبيرة عن شارع الرشيد وايقاع الحياة فيه سيما وانها تقع في قلبه، برغم صغر المكتبة الا انها كانت تتخصص باكثر من عمل حيث كانت المكتبة تبيع الطوابع المالية التي كان بيعها مزدهرا وكنا من القلائل الذين يقومون بذلك في المنطقة، كانت السجائر الاجنبية تحتل جزءا مهما من معروضات المحل حيث تبدا اعمدتها وفق تصنيف معين من الاسفل لتصل إلى سقف المحل حيث الصنف الاخير والارقى وهو انواع السيكار الهافاني، لم يكن وجود السيكار الهافاني بطرا بل كان له سوق جزء كبير منه من موظفي المصارف القريبة.

كنا نبيع الصحف حيث نعرضها على درج يتكا على “الدنكة” القريبة من المحل حيث لكل درجة نضع صحيفة فانذاك كان هناك تنوع في الصحف وتوجهاتها واتذكر بعض صحف العهد الملكي مثل الاخبار التي يملكها جبران ملكوني والزمان التي يملكها توفيق السمعاني وكلاهما مسيحيان وصحيفتيهما لا تحملان اي توجه سياسي لكنهما من الناحية المهنية كانتا متقدمتين في طباعتهما وتغطيتهما للاخبار بالطبع كانت هناك جريدة الاهالي الناطقة بلسان الحزب الوطني الديمقراطي والتي كانت تغلق بين فترة واخرى لاسباب سياسية فتحل محلها صوت الاهالي او صدى الاهالي،كما كانت هناك صحيفة الحرية لصاحبها قاسم حمودي والد جعفر سعد القياديان البعثيان لاحقا…بالطبع هناك صحف اخرى لاتحضرني اسماءها في هذه اللحظة لكن اتذكر وجود صحيفة مسائية اسمها اليقظة صاحبها سلمان الصفواني اضافة إلى صحيفة يومية تصدر عن سباق الخيل.

من طرائف بيع الصحف ان الوالد خصص عاملا خاصا لمتابعة بيع الصحف اسمه عيسى حيث وحسب الجو السائد سياسيا اصبح مؤيدا للشيوعيين دون انتماء لكنه كان يخجل من التصريح بذلك لانه يعرف اتجاه والدي السياسي،وكانت العادة انذاك ان يدلل على الصحف بحسب مميزاتها،وبينما كان والدي غائبا وبدل ان يقوم عيسى بواجبه بالتروبج لجريدة الاهالي استغل غياب ابي واخذ يصرخ اقرا اليوم اتحاد الشعب.. اقرا مقالة الاستاذ عزيز الحاج.اجاهم اجاهم الاستاذ عزيز الحاج…جاء ابي وكبس عيسى لكن رد فعله كان ضحكة طويلة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة