يسكب عطور الجزائر على العشرية السوداء

رشيد بن حاج

كاظم مرشد السلوم

بعد فيلمه الجميل الخبز الحافي المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب محمد شكري والتي شكلت جدلا واسعا بين القراء ومنعت لفترة طويلة من الطبع، يعود المخرج رشيد بن حاج للتعرض للفترة الاكثر سخونة في تاريخ الجزائر الحديث، والمسمية بالعشرية السوداء، اي فترة التسعينات التي شهدت تصاعدا واضحا في اعمال العنف التي طالت العديد من المواطنين الجزائريين، وكان ابطالها التنظيمات الاسلامية المتطرفة، التي أربكت المجتمع الجزائري عموما، واحدثت شرخا كبيرا في البنية الاجتماعية الجزائرية.

رشيد بن حاج كتب حكاية الفيلم بنفسه ووضع لها ، بمعنى انه اراد ان يطرح رأيه ورؤيته الخاصة عن تلك الفترة العصيبة في تاريخ المجتمع الجزائري ، وهي فضيلة ان يكتب مخرج الفيلم سيناريو فيلمه بنفسه ، واضعا تصوره الشخصي والفني لما جرى ، وتحويل الحاكية الى سرد صوري يجسد فظاعة تلك المرحلة ، والاسباب التي دعت اليها ، فاضحا الازدواجية التي يعيشها الكثير من رجال الثورة الجزائرية الذين قارعوا الاستعمار الفرنسي وصولا الى الاستقلال ، لكنهم بقوا متشبثين بكونهم الاقوى والاجدر لقيادة البلد في كل المجالات وعدم الاعتراف بالوعي الجديد لجيل كامل ، تقاذفته الاحداث الجسام .

رشيد بن حاج اراد ان تكون المرأة الجزائرية ، بطلة لفيلمه وان تكون مرتكزا لأحداثه، فالثورة الجزائرية شهدت نضال نساء مازلن حاضرات في الذاكرة الجمعية للمجتمع الجزائري ، فكانت بطلته ” كريمة ” محور الفيلم ، أدت دورها الممثلة

الايطالية ” مونيكا جريتيو ” امرأة تحررت من قيود عائلة يقودها أب متسلط ، من جيل الثورة الاول ، لا يعترف بالجيل الجديد ، لكنه يعيش ازدواجية غريبة ، فيتبنى “سامية “ابنة احد رفاق نضاله بعد موته ” قامت بدورها الممثلة ” ريم تاكوشت “، لكنه لا ينتظر طويلا حتى يغتصبها الامر الذي تقرر كريمة بعد معرفتها ومشاهدتها لذلك بهجرة الجزائر ، وتبقى هناك لمدة عشرين سنة منقطعة عن كل ما يمت لبلدها من صلة .

من هنا تبدأ حكاية الفيلم من حفل يجري في احدى الشقق الباريسية الفخمة، بمناسبة فوز الفنانة الفتوغرافية “كريمة، بجائزة رفيعة ، بعد انتهاء الحفل ، تتلقى مكالمة هاتفية من امها تخبرها بمرض والدها ودخوله مرحلة الاحتضار ، لكن هذا لم يحرك مشاعر كريمة ، الذي يحرك مشاعرها وينقلها الى عالمها ، بلدها الاول هو اخبار امها لها بأن اخاها مراد قد القي القبض عليه بتهمة الارهاب .وهو الاخ الذي عاشت معه طفولة لا يمكن ان تنساها مهما بعدت المسافة وطال الزمن .

رشيد بن حاج كان قد اوضح لنا عمق العلاقة بين الشقيقين مراد، وكريمة، والطفولة البريئة التي قضوها معا من خلال الفلاش باك واسترجاع كريمة لذكرى تلك السنين.

كريمة تقرر العودة والدفاع عن اخيها ومعرفة الاسباب التي ادت الى انخراطه في صفوف المنظمات الارهابية .

حين تعود لبيتها القديم، تفاجأ بالتغيرات الكبيرة التي حصلت ، للبلد ، الدار ، الاهل ، الشعب .

ربما يرى البعض انه كان يفترض بالمخرج رشيد بن حاج اظهار واقع مأساوي لحال مدن الجزائر ، لكنه على العكس من ذلك رسم صورا اخاذة لها ، اراد ان يقول من خلالها ان البلاد تبقى هي البلاد رغم كل شيء.

ساعد بن حاج على رسم تلك الصور الجميلة توفره على مدير تصوير ، حاصل على ثلاثة جوائز اوسكار ، عن افلام ، الحمر ، الامبراطور الاخير ، القيامة الان ، هو فيتوريو ستورادو .

الفلاش باك كان الاداة الفاعلة لرشيد بن حاج حيث نقلنا ومن خلاله الى فترات زمنية متفرقة من تاريخ الجزائر ، لكنها مجتمعة في ذهن كريمة .

كريمة تعود ثانية لتعيش تناقضات المجتمع الذي يعيش فترة العشرية السوداء ، فترة التسعينات ، حيث تتعرض مع بعض النساء لهجوم بعض المتطرفين لحفلة عرس حضرتها ، وهو امر لم يكن يحصل سابقا ، وتعرف ان ضغط الاب القاسي ، هو الذي دفع اخيها مراد على الانضمام الى الجماعات الارهابية .

عم كريمة المناضل السابق والمعترض دائما على سلوك ابيها ، هو عزائها الوحيد ، بأن العقلاء من الجيل القديم ، مازالوا يمثلون السور الامن لبلدهم ، رغم كل ما تعرضوا له .

حين تزور اخيها في السجن القابع في قلب الصحراء وبعد توسط احد اقاربها من المسؤولين تستطيع ان تصل اليه مع زوجته ، وتستغرب للأفكار التي يحملها وهو الطفل الذي كان يمكن ان يكون له شأن كبير فيما لو عاش بدون السلطة الابوية العنيفة .

المفارقة انه ولدى عودتها وزوجة اخيها سامية من زيارتهما لمراد ، تتعرض السيارة التي تقلهما الى اعتداء ارهابي من قبل نفس الجماعة التي ينتمي اليها مراد ، فتقتل زوجة اخيها ، وتصاب بصدمة كبيرة جراء ذلك .

المشاهد الاخيرة تظهر كريمة وهي تشترك بتظاهرات تطالب بحرية المرأة الجزائرية ، اراد من خلالها رشيد بن حاج القول ان نساء الجزائر ، الامهات ، الاخوات ، الزوجات ، كل نساء الجزائر هن عطورها ، عطور ارضها التي لا يمكن العيش

عليها بدون هذه النساء العطور ، فهن شذى الحب والامومة العذب ، وانهن العطر الذي يكرهه التطرف ولا يريد لمسك رائحته ان يعم المكان البلاد .

واعتقد ان الاحداث التي يمر بها العالم العربي ، والتغيرات الكبيرة التي حدثت وتحدث ، والشرخ النفسي والاجتماعي الذي تخلفه بنفوس الشعوب ، تحتاج الى تناول سينمائي ، يطرح المشاكل ويضع لها الحلول من خلال افلام لمخرجين وفنيين يتوفرون على معرفة بالصنعة السينمائية .

في أبو ظبي سنحت لي فرصة اللقاء بالمخرج رشيد بالحاج ودار الحديث بيننا حول ادواته كمخرج في تحويل المحكي الروائي الى المحكي الفلمي، خصوصا في فيلمه الخبز الحافي، عن رواية محمد شكري .

رشيد بن حاج المقيم في ايطاليا ، مخرج يتوفر على الحرفية العالية في التعامل مع عناصر اللغة السينمائية ، وتوظيفها بما يخدم الفيلم ، وجعلها تشتغل ضمن الدلالات والعلامات التي يراد بثها من خلال السرد الصوري للفيلم .

انه مخرج يعمل على توفير الدهشة البصرية للمتلقي من خلال ، الحبكة التي تلازمها صورة تنقله الى عالم الخيال السينمائي السحري ، وهو أمر ربما لا يتوفر عليه الكثير من المخرجين .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة