مجتمع الوفرة

ثمة أمور طرأت في دنيا العرب، أفرغت حياتهم من كل رمز ثقافي أو اجتماعي، ونزعت عنها كل محتوى وطني أو جماهيري، حتى غدوا متشابهين في الهيأة والسمات، وباتوا قريبين من بعضهم في الأحلام والتطلعات.
لم يعد هذا العصر ينتج أعلاماً كما كان من قبل، ولم تعد الساحة تشهد نجوماً كما زخرت بهم في الماضي. كل شئ أصبح في مجتمع الوفرة معاداً مكروراً، لا ميزة فيه على آخر، ولا فضل فيه على ثان!
من ينكر هذا عليه أن يتلفت يميناً وشمالاً ولينظر كيف كانت الجامعات العربية التي لا يزيد عددها عن أصابع اليدين تخرج علماء ومفكرين. وكيف تحولت الآن بعد أن تكاثرت أعدادها بشكل مذهل إلى معاهد لإعداد الموظفين.
وعليه أن يتذكر كيف كانت محطات التلفزة القليلة التي ظهرت في هذا البلد أو ذاك تنتج فنانين وإعلاميين كباراً، في حين لم تستطيع مئات القنوات العابرة للحدود أن تصنع نجوماً بحجمهم، أو تنبت نماذج قريبة منهم. فمجتمع الوفرة الذي ألفينا أنفسنا فيه في القرن الحادي والعشرين هو مجتمع الكم وليس مجتمع النوع.
حتى القادة العظام الذين كانوا يحاربون الجهل، ويقارعون العدو، لم يملأ مكانهم أحد. الكثيرون منهم كانوا ضباطاً صغاراً لم يغادروا ثكناتهم إلا في العطل والإجازات. ولكنهم حينما تولوا الزعامة نشروا النظام، وعمروا البلدان. اختفى كل هؤلاء – دون ذكر الأسماء – من حياتنا في هذا القرن. فالراغبون في الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع يستعصون على الحصر، ويجلون عن الوصف. وهم لا يملكون العدة اللازمة للانقلاب على الواقع، ولا الحنكة الكافية لبناء الأوطان.
ليس هذا فحسب بل إننا لم نعد نجد هذه الأيام روائياً كروائيي مصر، ولا مفكراً كمفكري المغرب، ولا شاعراً كشعراء العراق، ولا صحفياً كصحفيي لبنان، ولا مسرحياً كمسرحيي سوريا، من الذين شغفنا بهم في القرن الماضي. اختفى هؤلاء وظهر بدلاً عنهم المئات أو الآلاف. ولكن أحداً منهم لم يستطع أن يملأ كرسياً شاغراً، أو مقعداً فارغاً. فالوفرة تعطي نسخاً مكررة من بعضها لا غير.
ربما لم تصدر في العقود الأخيرة كتب مثل تلك التي صدرت قبل نصف قرن أو يزيد، ولم تظهر نماذج أخرى بحجم «النبي» أو «في الشعر الجاهلي» أو «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» أو «أولاد حارتنا» أو «موسم الهجرة إلى الشمال» وغيرها من النماذج التي ماتزال شاخصة في الأذهان. مع أن المطابع أصبحت أكثر إتقاناً، وأخف مؤونة، من ذي قبل.
لقد رحل عن عالمنا من رحل من أهل القلم والفن والفكر والسياسة، وبقيت ثلة قليلة منهم تصارع الزمن والمرض والشيخوخة. ولم يعد بوسعهم العطاء في مجتمع متخم بالأسماء والألقاب، غير قادر على النفاذ إلى العمق، أو الإخلاص للحقيقة، أو الالتزام بالموضوعية. فهذه هي الشروط الطبيعية لأي نهضة محتملة في بلادنا أو أي بلاد أخرى في العالم، ولا بد أن توضع في الحسبان قبل أي شئ آخر.
محمد زكي إبراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة