هروبنا

الهروب من نفق مضيء
قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967

تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.

الحلقة 13

جاسم المطير

كنا نتابع موقف الاتحاد السوفييتي ايضا إذ اوردت الاخبار ان السوفييت ابلغوا فعلا حكومتي مصر وسوريا أن اسرائيل تحشد قواها العسكرية على جميع الجبهات .
لكن الواقع السياسي في مصر وسوريا ما زال معقدا ولم يتخذ جمال عبد الناصر الاجراءات الحقيقية للاعتماد على الجماهير فقد كانت القيادة المصرية قد فقدت زمام المبادرات السياسية والجماهيرية ولم تطلق سراح السجناء السياسيين والشيوعيين من السجون المصرية . هذا الموقف أثــّر بصورة مباشرة على موقف الحكومة العراقية التي كانت تتجاهل عن عمد مطالبات الرأي العام العراقي والعالمي بضرورة اطلاق سراح جميع السجناء السياسيين من السجون العراقية خاصة وان تلك السجون كانت تضم مئات السجناء من الضباط والطيارين والمراتب العسكرية المختلفة التي يحتاجها الجيش العراقي في حالة قيام الحرب مع اسرائيل التي كانت الاخبار المتوالية تشير بوضوح الى أن اسرائيل تحشد ثمانية ألوية عسكرية على الحدود الشمالية مع سورية استعداداً لتنفيذ خطة جاهزة تستهدف ضرب الجيش واسقاط النظام في سورية. فقد سبقت ذلك تهديدات متواترة للمسؤولين الإسرائيليين وعلى رأسهم ليفي اشكول رئيس الحكومة عن نيتهم في احتلال دمشق، وإسقاط النظام السوري الذي كان حسب ادعائهم يشكل خطراً كبيراً على اسرائيل بسبب دعمه واحتضانه المقاومة الفلسطينية الوليدة التي كانت تمارس نشاطها من سورية، وبسبب تبنيه استراتيجية حرب الشعب الطويلة الأمد.
وقد أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر رسمياً رده على التهديدات الإسرائيلية بأن أي اعتداء على سورية يعتبر اعتداء على مصر وسترد عليه بكل قواها تنفيذاً لاتفاقية الدفاع المشترك التي وقعت بين البلدين قبل عدة أشهر.
كما طلب عبد الناصر من السيد أوثانت الأمين العام للمتحدة سحب القوات الدولية من شرم الشيخ ومضائق تيران ومن الحدود الفاصلة بين غزة وإسرائيل . هيئة الأمم المتحدة استجابت فعلا لهذا الطلب و قررت سحب قواتها خلال ثلاثة أيام..
هذا الوضع المتسارع والملتهب لم يجد ارتياحا لدى السجناء عموما فقد تصاعدت افتراضات كثيرة بين مجموعات السجناء المتجادلين وخصوصا بين الضباط الشيوعيين . كانت بعض الآراء تتوقع قيام الحرب وبعضها ينفيها . كما ظهرت بعض الآراء تؤيد احتمال العفو العام عن السجناء وبعضها ينفي هذا الاحتمال . على أية حال فان الرأي الساري والمقبول بين فريقي التنفيذ والتخطيط في ظل هذا الوضع هو تعجيل عملية حفر النفق . وقد وجد هذا الرأي حماسا من الجميع .
لقد أنهزم الرأي القائل بالتريث انهزاما كلياً .
وأصبح تسريع عملية الهرب هو المهمة الرئيسية الأولى .
كما أن الأوضاع المتصاعدة في الدوائر السياسية العراقية والمصرية قد بلورت فكرة معينة دفعت الضباط الشيوعيين السجناء في سجن الحلة إلى مناقشة فكرة المشاركة في الحرب إذا قامت فعلا بين العرب وإسرائيل وكان النقيب السجين جبار خضير – مقيم حاليا في السويد – ممثل السجناء أمام الإدارة ، واحدا من الذين يعتقدون بقرب قيام العدوان الإسرائيلي وكان يواصل اجتماعاته مع بقية السجناء العسكريين لبلورة موقف محدد من الحرب . كان هذا الشاب يحمل في ذهنه مجموعة من المقترحات يتناقش حولها مع نصيف الحجاج وسجناء آخرين لبلورتها وتنفيذها . كان واحدا من مقترحاته تقديم مذكرة موقعة من عسكريين مسجونين في الحلة إلى وزير الدفاع وإعلان تطوعهم في القوات العراقية المسلحة التي هم جزء أصيل منها . حين عرض النقيب جبار هذا الرأي ، بعد موافقة المنظمة ، على مدير السجن الذي رحب بالفكرة ترحيبا كبيرا وأبدى استعداده لاستقبال مذكرة من هذا النوع موقعة من الضباط الشيوعيين إلى السلطات الحكومية العليا فأنه يرفعها بأقصى سرعة .
وقد بدا ارتياح واطمئنان تامين على وجه مدير السجن حال معرفته باقتراح يدور في أذهان العسكريين السجناء بالتطوع مما يعني قناعته بعدم وجود ” احتمال ” الهرب خاصة وأنه كان يدور بخلد السجن والسجانة أن ” خطر ” الهرب يأتي دائما من الضباط الشيوعيين مثلما يأتي من الكوادر الشيوعية .
تجمع في نفوس فريقي التنفيذ والتخطيط أمل كبير خلال تبادل الأخبار والمعلومات الداخلة إلى السجن عبر الراديو أو بواسطة رسائل الأهل والمقابلات الخاصة. لم نعد نشعر بأي عجز أو تردد ، بل أصبح كل واحد من المجموعتين مدبرا لكل وسائل الحفر ومتنبئا بالنجاح اعتمادا على فتوة ويفاعة فريق التنفيذ الذي كان فيه وعي ( فاضل عباس ) يكمل مهارة ( حسين ياسين ) وموهبة (عقيل حبش ) واندفاع ( كمال ملكي ) واتساق ( جدو ) مع العطاء الجماعي للمجهود الذي يتعامل مع باطن الأرض تحت بناية الصيدلية .
كل واحد منهم كان ينتمي إلى القوة والعزم والشجاعة .
كل واحد منهم يريد أن يكتب صفحة مضيئة في تاريخ حياة السجناء الشيوعيين.
كل واحد يتطلع إلى الخلاص من تعسف الجدران العالية .
كل واحد يريد أن يروي لمدينته قصة الرد الثوري على تعنت السلطة الحاكمة برفض مطالبات الرأي العام لإطلاق سراح السجناء السياسيين.
أيها الحفارون : أسرعوا في الحفر فالظروف كلها ملائمة . أيها الحفارون : إرادتكم هي الوسيلة القصوى .
هذا هو النداء المهموس من فريق التخطيط إلى فريق التنفيذ . الجميع أصبحوا يشعرون أن عليهم رسالة خاصة ستؤطر في سجل النضال المقدس للشيوعيين العراقيين ضد الرق والعبودية التي فرضتها قوانين السجون الغاشمة .
بعد قيام فحص موقع أرضية الصيدلية لمرات عديدة من قبل فاضل عباس وعقيل حبش ظهرت أمامهما مهمة عملية هندسية لكي ينازلوا في الفترة القادمة هذا النفق وأرضيته ولكي يصبح العمل الدائب مهيئا فرصة الهرب السهل ، سهولة وضع الخاتم بإصبع اليد ، كما بالغ حافظ رسن بهذا القول ذات مرة .
العملية الهندسية في غرفة الصيدلية كانت هي الوسيلة الأولى لتدبير أول دقة لحفر النفق المفضي إلى درب الحرية الواسع . لكن هذه العملية من دون مهندس . ليس بين فريق التنفيذ أي مهندس وربما يؤدي حفر النفق بدون هندسة إلى الفوضى والفشل فهذا النوع من العمل الثوري يحتاج إلى تقدير هندسي دقيق لطول النفق وعرضه وارتفاعه يتبعه بعد البدء بالحفر ضرورة استنباط لمعرفة كيفية التخلص من كمية التراب الهائلة التي ستأتي من عملية الحفر .
لا بد إذا من وضع تصاميم نظرية على الورق كي تشكل جزءا من المنظور العام عند التنفيذ ، وقد أبدى فاضل عباس وعقيل حبش من الفطنة الهندسية والذكاء الهندسي بما أغنى العملية بجهد حقيقي لم يعد بحاجة إلى أي مهندس .
لمعالجة هذه الأمور تكلف بها ثلاثة نشطاء . واحد من فريق التخطيط ( حافظ رسن ) واثنان من فريق التنفيذ ( فاضل عباس وعقيل حبش ) . كان لا بد من تركيب وصياغة خطة عمل يومية لتأمين عملية الحفر إلى جانب الضرورة في عملية تمويه كل مظهر من مظاهر الحفر ليس فقط على إدارة السجن ورقابته بل على السجناء أيضا ، خوفا من نتائج ثرثرة ثرثارين وكانوا غير قليلين داخل السجن وداخل المنظمة السجنية رغم قيام المنظمة بتطهير السجن من بعض العناصر التابعة لإدارة السجن في فترة سابقة أشرت إليها من قبل . ربما تؤدي الثرثرة البريئة إلى انتكاسة عملية حفر النفق التي هي كأي عملية أخرى تخضع لقواعد الخطأ والصواب خاصة في ظروف مأسوية قاهرة كظروف السجون السياسية المحاطة دائما بكل وسائل القمع البوليسي وشباكه .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة