الاحتجاجات الثورية في العراق: مقاربة أولية

القسم الثاني

شاكر الناصري *

حتى هذه اللحظة، فإن الاحتجاج الثوري والحشود الجماهيرية التي غزت شوارع بغداد والمدن الأخرى أجبرت السلطة الحاكمة على تقديم تنازلات كبرى تمثلت بالإعلان عن حزم إصلاحية لم يسمع بها أحد من قبل، ووعود بتوفير فرص العمل والضمانات الاجتماعية والصحية ووو.الخ، وجاء اعتراف السلطة وعلى لسان رئيس مجلس الوزراء وقادة الاحزاب والكتل النيابية والرئاسات الثلاث بفشل النظام السياسي بدستوره ومحاصصته، ومساهمته في تدمير حياة العراقيين ودفعهم نحو حافة الفقر والبطالة، وضرورة إصلاح هذا النظام وتعديل دستوره والخروج من نظام المحاصصة الطائفية والسياسية ليكون أكبر التنازلات التي نتحدث عنها!
ثمّة فئات كثيرة شاركت في الاحتجاج منذ بدايته، وأخرى شاركت بعد إعلان النقابات العمالية والمهنية، نقابة المعلمين والمحامين والمهندسين والأكاديميين واتحادات ونقابات العمال، عن الإضراب العام والعصيان المدني. لكن ما يجب الإشارة إليه في هذه المقاربة السريعة، أن الفئات المفقرة والمهمشة والمعطلة عن العمل، من أصحاب البسطات وباعة الارصفة وسواق التكتك والمعطلين عن العمل،هذه الفئات التي كانت تأكل كرامتها وفقرها لتبقى على قيد الحياة، هي القوى الاجتماعية الحقيقية التي أطلقت صرخة الاحتجاج الأولى وأعلنت أنه لم يعد لها شيئاً تخسره سوى كرامتها التي امتهنتها السلطة الحاكمة وأذلتها الاحزاب والمليشيات، حيث يعيش الكم الأكبر من هذه الفئة حد الكفاف، وينبشون في أكوام القمامة والنفايات ويعيشون في المجمعات السكنية العشوائية، حيث يتحول الأطفال إلى أصحاب عوائل ويتوجب عليهم توفير لقمة العيش للأم والأخت والأب العاجز الذي خرج من حرب الطوائف معاقاً، بينما يتحول توفير قوت العائلة إلى هم مخيف للمعطل عن العمل، ويجبره على العمل في مهن وظروف عمل لاإنسانية.
إن الفئات التي نتحدث عنها، هي الفئات التي يمكن تسميتها بالعمالة الهشة، التي تتحول، وبفعل النظام الاقتصادي القائم وممارسات السلطة إلى ظاهرة اجتماعية متزايدة ومثيرة للانتباه، لكنها تعكس صورة حقيقية عن الواقع الاقتصادي ومآلاته في دولة ريعية تعتاش على عوائد النفط، لكنها تتهرب من تحويل تلك العوائد إلى مشاريع اقتصادية، وتتعمد تدمير القطاعات الانتاجية والزراعية التي يمكنها أن تساهم في تشغيل المعطلين عن العمل، وتنصاع بسهولة لشروط صندوق النقد الدولي، وتتحول إلى دولة مدينة رغم ثوراتها الهائلة التي يتم الاستيلاء عليها من قبل الطبقة السياسية الحاكمة التي تحولت إلى أبرز طبقة فاسدة في العالم. فتصبح هذه الفئة خارج علاقات الانتاج.
إن العمالة الهشة خارج علاقات الانتاج ولا تستطيع بيع قوة عملها مع أن أفراد هذه الفئة يقفون كل يوم في طوابير ينتظرون من يشتري قوة عملهم، وتستهلك الكثير من الوقت والجهد والتعب في طرق أبواب الدولة مؤسساتها للبحث عن فرصة عمل أو توظيف في الجيش أو الشرطة أو المليشيات المسحلة مع أن الكثير من أفراد هذه الفئة فقدوا حياتهم في الحروب التي شهدها العراق خلال السنوات القريبة الماضية بعد فتح باب التطوع في صفوف الحشد الشعبي ومليشياته لكن سرعان ما تم التخلص منهم بعد انتهاء الحرب! وفي ظل وضع كهذا يصبح من المتعذر حصول هذه الفئة على أجر أو راتب أو ضمانات بطالة تمكنها من إدامة حياتها بشكل طبيعي أو روتيني أو العيش حد الكفاف الأمر الذي يحول أفرادها إلى فئات ساخطة ولاتتردد عن الاقدام على أعمال العنف للتعبير عن غضبها وحاجتها وفقرها وتهميشها المدَمر. وعندما انطلقوا في احتجاجتهم كانوا يصرخون بشعار عاطفي يائس: نريد وطن! شعار يجسد خيبتهم ومأسيهم وجوعهم، شعار لايمت إلى حقيقة أوضاعهم بشكل جدي، لكنهم يتمسكون به لأنهم ابناء هذه الدولة التي سحقتهم وأهملتهم وأذلتهم، بينما تقوم الطبقة السياسية وأحزابها ومليشياتها وزعامتها بنهب مقدرات الدولة علناً.

  • عن موقع الجدلية

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة