مدونات الطين.. (قراءة المحو) في أعمال الفنان موفق السواد

كريم النجار

من الأمور المثيرة والمعقدة في عملية الرسم، هي تلك الأسئلة المرتبطة بموضوعة الجمال، وما تعنيه تلك المفردة التي تكّون أس العمل على اللوحة التشكيلية، فما أن يشرع الفنان في وضع التخطيط المسبق لشكل العمل وبناء تصوراته وتوزيع انشاءاته على قماشة اللوحة، حتى يجابه بسؤال آخر يتعلق، بماهية والجدوى من الرسم؟، وكيف يؤسس لموضوعته التي تكاد أن تكون واحدة من الأشياء العسيرة، بالذات حين يطوعها لخدمة الغرض والغاية من (الفكرة، أو الحلم) الذي برق في رأسه ومخيلته، فما بالك حين يكون الرسم عملية محو تام ومسبق لكل (الافكار الجاهزة) وبث وخلق عالم جديد يكون محوره البياض واللون الأحادي المحايد، مغلفة برسائل مضمرة تحاول سبر وقراءة عملية المحو تلك.
المتصفح لصور الجداريات القديمة التي تركها أجدادنا القدماء، يلاحظ بلا شك عوامل (التعرية) والتشوهات التي تركها الزمن وتقلبات أنوائه على الأشكال والتخطيطات والنحوت البارزة، أشكال هلامية وبقع وحزوز وأكسدة وغبار ذو طبقات سميكة، تكاد أن تكون عملا مضافا أيضا، وموازيا لشكل العمل الأصلي.
في معرض الفنان والشاعر موفق السواد، الذي أفتتح عصر يوم الأحد الموافق 13-1-2019 على صالة غاليري (Out in the field) في أمستردام، والذي ضم العديد من اللوحات وبمختلف الأحجام، والذي كان محوره التطلع والغوص في فكرة (قراءة المحو) تلك القراءة العسيرة التي تجاهد في فك وكشف بعض طلاسم ما خلفه الزمن والأحداث والأشخاص، من أثر يكاد يصارع صراعا مريرا، لتفسير وكشف شيء من وحدات رموزه وخيوط الحياة المشتبكة تحت طيات وطبقات الرسم والامحاء المتعسف لحيوات تظهر على شكل كتابة وحروف غير ذات معنى ولا تشكل جملة فارقة تفسر لنا هذا الغموض المتقصد.

رسائل غارقة في النسيان
يغلف الفنان موفق السواد لوحته بنتف من مقاطع رسائل مختلفة الاحجام مبثوثة على سطوح أغلب أعماله، يدون عليها نصوصا وكتابات غائرة، وبعضها بارزة بحروف نسيت مضامينها، لكنها تشكل نسقا جماليا تاركا أثرا لا يمكن للمحو أن يطاله، حروف هي بمثابة حيوات تتحرك أفقيا وعموديا وتغالب أن تخرج من أطار اللوحة واللون المعتق الذي يتماهى مع أشكال (الرقم والجداريات الطينية) المحبوسة في دهاليز وكهوف التاريخ، لفضاء أكثر شساعة وأفقا، لتحكي ما تركه الزمن من ندوب غائرة في حياة مدونها، تلك الحكايات المريرة والسارة أيضا، المعلن والمسكوت عنها بذات الوقت، كلمات طالها النسيان، واخرى تدون لحدث مر سريعا خارقا نسق اللوحة من الأعلى للأسفل، وكأنه يريد أن يفصح كل شيء مرة واحدة ودون أن يترك ضجيجا دالاً عليه.
من المفارقات السارة أحيانا، وليس في الغالب، عند الشاعر الفنان، هي محاولاته الحثيثة في كتابة القصيدة التصويرية وبث الحياة المجسدة في الحروف والكلمات، وهذا لا يتأتى لمن يشاء ذلك، إن لم يكن متسلحا بعدة الرسم والحرفة والحرفنة والخيال الخصب، وقد أجاد هنا موفق السواد برسم خيالاته تلك وإضفاء شيء من روحه المتوهجة، رغم محاولته التعمية في التجريد والتغريب وتشتيت المتلقي بين محاولة قراءة النص المدون على اللوحة، وفك بعض الوحدات التجريدية ذات البعد واللون الواحد.

بين الرسم والمسرح والشعر
رافق أفتتاح المعرض برنامج فعاليات طال لساعات وسط جمهور غطت به الصالة، تألق فيه عازف الكمان العراقي» عضيد « بالتوافق مع عرض ممسرح لإحدى قصائد الشاعر «موفق السواد» أداها برشاقة وإحساس تعبيري تصويري أخاذ الفنان المسرحي «صالح حسن فارس» مجسدا خلال عشر دقائق ثنائية الشاعر والرسام، بين الاستغراق في اكتشاف النص الكتابي والبصري وبحركات تعبيرية مستوحات من هذين الفعلين (الكتاب واللوحة) ثم تلتها قراءات شعرية لعدد من النصوص قرأتها الشاعرة الهولندية Dorien de wit والشاعر العراقي المقيم في بلجيكا «مهند يعقوب» الذي قرأ بعضا من قصائده الأخيرة، إضافة لقصيدة مستوحاة من إحدى لوحات موفق السواد، وكذلك قرأ الشاعر العرقي المقيم في النرويج علي إبراهيم صافي، مجموعة من قصائده، وأخيرا ألقى الشاعر الهولندي Tsead Bruinjaبعضا من نصوصه الشعرية وقصيدة مستوحاة من أعمال الفنان السواد.
وأختتم الناقد التشكيلي والباحث الهولندي « Floris Schreve» بقرائته لورقة نقدية سلط فيها الضوء على تجربة الفنان موفق لسواد ومرجعياتها الفنية. هذا ويستمر المعرض لمدة شهر كامل.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة