بقايا

محمد عواد

خيمة الليل تحوي المكان، ماتزال الغيوم تنث من دموعها الكثير، كآبة أمطار الشتاء، تتسرب الى دمه، اثقلت الخمرة رأسه الخاوي الا من بياض وجهها، بعينين متعبتين، وأهداب مثقلة بالدموع، ينظر من شباك الحانة المحاذي له، شاهد اضواء السيارات وهي تعكس تراكض حبات المطر على حافات الرصيف، وكأنها حبات لؤلؤ انقطعت من عقد امرأة جميلة.
لسانه يدندن مع صوت أم كلثوم الذي بدا مترنحاً من رائحة الحانة (فات الميعاد)، أكملها بصوت مثقل بالفراق (وبقينا ابعاد). يزم شفتيه على سجارته، يبتلع نفسا عميقا منها، ليطلق غيمة كبيرة بيضاء فوق رأسه.
دنا منه النادل بقميصه الابيض، او ربما كان ابيض فيما مضى (تامرني بشيء عمي)، أطفأ بقايا سجارته، رفع راسه، اريد ورقة وقلم، طلبه هذا جعل النادل يفتح عينيه باتساع كبير، كان طلبه غريباً على المكان، فكل زبائن الحانة لا يجيدون غير احتساء الخمر والبوح بذكريات ممزقة.
كانت أصابعه ترتجف، كأنها طفل يتعلم المشي، شبك اصابعه بعد محاولات عدة على القلم.
يمين زاوية الورقة العليا، نقش عليها، بعد التحية سيدتي الموقرة .. اكتب إليك من مكان أعتادني منذ ان أحببتك، ومن طاولة تجذرت بها كؤوس خمرتي، وكانت شاهدا على خيبتي.
سيدتي…لقد استوحشنا طريق الفرح. ارواحنا اعتادت دروب الاحزان، اقول لك من قلبه يملؤه الالم واللوعة، أصبحنا كالبغايا كل شيء فينا مباح وَبأ رخص الاثمان، احلامنا حدودها الوسادة، دموعنا لا نذرفها الا على الراحلين، آهاتنا تصاحب زفيرنا، صدورنا مثقلة بقلاع من الاحزان، وعندما تسهو اقدارنا عنا للحظات نحلم، آه، وأي حلم.
بدأت دموعه تلامس الورقة، كفكفها، وأكمل، اي حلم هذا الذي يتحول الى مرارة، بالفقر، بالحزن، بالموت، وكأننا جبلنا على احزاننا الابدية.
عندما أحببتك، سالت روحي؟ هل بالعمر بقية، هل هناك يوم أخر؟، لم اصدق حينها، الا عندما همست لي بأربعة حروف، بكيت حينها، اتذكر أنك بكيت معي، احتضنتني، مسحت دموعي بأطراف أناملك عن خدي الذي لفحته سياط الشمس، اعرف اننا كنّا نهذي، وكل هذا الهذيان جعلنا اسعد ما في الوجود.
اكتب لك الرسالة هذه وانت ترزمين بقايا ذكرياتك معي وتضعينها في حقيبتك التي لم تعرف السفر الى اليوم، واعلم أنك تستوحشين طريق الرحيل دوني.
بكى بدموع ساخنة لم يبكها على أحد من قبل، رفع خصلة نافرة من شعره انزلقت على جبهته، وأكمل كتابته.
كنت أتمنى ان أضع قبلة على شفتيك اللوزيتين قبل ان ترحلي، ولكني لا أجيد الوداع، غادري سفني فقد اصابها الطاعون، ابحثي عن ميناء سلام، فربما تحط احلامك وترسو عليه، اعلمي حبيبتي، اقولها لك وانا منهار، أنا من دونك، بقايا إنسان.
ختم رسالته بعبارة.
المفجوع بالفقد، نبي خانته السماء.
طوى الورقة، وضعها في ألكأس، سكب عليها ما تبقى من قنينة العرق، ليتجرعها مرة واحدة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة