رأيت اورنمو وسماع عشتار في اوراق مجموعة «بريد الفتى السومري» للشاعر «عدنان الفضلي»

خليل مزهر الغالبي

وإن اكد الباحثون اللغويون حيادية اللغة في أحاينها العامة، لكن البعض من اللغة الادبية تفقد حياديتها وخاصة في جنسها الشعري، وتعبر آليتها المُوصِلة المستقلة لتتلبس روح الشاعر داخل النص وبما يختلجه من رؤى عالية ومألات شادة منغمسة فيه بمثل حالة لغوية منحازة لخاصة بصمته الروحية.
فلا ثمة اغترابا بين اللغة و روح انشاد الشاعر وهي تحدد وتنقل ماهية الشاعر وسلوكه الشعري داخل النص و ترسم مقصدية خطابه المتماهية مع انشاد الشاعر، والعمل الشعري عبارة عن مجموعة من المستويات الفنية للغة التي تتراكب عضويا لتنتج الصورة النهائية للنص والتي تناسب نزول روح الشاعر وتسكنه النص بلا تضبب وتلعثم في حلوله هذا المكون لوحدته الشعرية مع ثيمة النص المتمثلة هنا بسومرية «عدنان الفضلي»،وهذا ما بدى واضحاً في قرائتنا النقدية لنصوص المجموعة الشعرية(بريد الفتى السومري) بإعتبار النقد قراءة عقلية تأملية فاحصة وكاشفة لميول لغة النص وفعلها الشعري الخاص، ومن كون ذوتنة الشاعر من ذوتنة اللغة كما في رؤى نظرية النص النقدية المحددة للغة مع الثيمة، فمن كشوفات لغة المجموعة ومن فعلها الشعري، نرى مثول الطبيعة السومرية وشيوع مناخها في النص وهي تعج بتسامي تاريخها العابق اللذيذ، كما في اشتغالات الشاعر «عدنان الفضلي»وهو يمسك بطرف عباءته السومرية ملوحا بافتخار عن ذلك المسرى المتشكل على هيئة زقورة التي اختارها الله واوصى بها ملائكتة في سلوكهم وما لهذا من قدر عظيم الشأن…

روح سومر وشعرية الفضلي
لقد رأينا في النصوص قصب الهور السومري ،مثلما حمورابي في بياض الصفحات وهو يخط مسلته و يطل كلكامش بلياقته الشجاعة في بحثه عن الخلود واحاين نسمع فيها عزف عشتار وغيرها من المظاهر،لتؤكد لغة المجموعة ،إنها لغة شعرية فاعلة نفخ «عدنان الفضلي» روح الطعم السومري ولونه و رائحته، وقد حملت الكثير من روح الشاعر المنغمسة كثيراً بسومريته ، هذهِ السومرية الممتدة من مدينة اور الموغلة في قدم التاريخ والناصرية بحضورها الان،ومن كون القراءة النقدية قراءة تأملية للعقل النقدي بمجساتها المنوعة بتنوع الظواهر السومرية والماسكة بها في حضرة النصوص. ومن اقتحام المسكوت عنه في الحاضر السومري المقموع وبتماهي مع النشيد الباسل للمكاريد الغير منهزمين في خساراتهم والفقراء والبسطاء كما في بدء المجموعة بقصيدة (الناصرية التي في العلا)…
(في الطريق الى الناصرية ../قد يصادفك مشحوف، لم يكتب عليه لفظ الجلالة،/إنه يعود لبوذا، وقت جاء يتعلم العزف الجنوبي، في مضارب بني أسد.منسيه عند جدتي التي أورثتني الضلالة السومرية اللذيذة،/قد تسقط نظراتك على أطلال بئر، تحرسه أفعى خضراء/هذا منبع الاهوار، التي سكنها شعب يتلو على نفسه فقط./الابوذيات التي تكتبها النسونة ،مدافة بالطين وبقايا القصب)
هذا الطريق الى الناصرية السالك بما في السومرين من ألم لم ينحنوا له ولم تسكت روحهم الوثابة بالطيبة والحياة لذلك التاريخ المنقوش في الذاكرة الممتدة حتى الشعوب الاخرى للارض، والمنبهرين بتاريخهم و احلامهم التي عرفوا بها ،وقد تغنى بها الشاعر الفضلي وانشدها بافتخار عالي حيث المشحوف بلفظه السومري وما دالة ذكره لبوذا الذي جاء يتعلم العزف من قوم بني اسد الذين استقروا الاهوار الممتدة الحضور من سومر للحظتهم هذهِ،ويذهب النص في الكشف عن خساراتهم الحاضرة والفقد المتواصل المتوالي لحروب الحكام الطغاة…
(.. واينما تلتفت في ذلك الطريق../ستشم رائحة شواء ،تنبعث من قلوب الامهات والعشيقات/كون نارهن ازلية متقدة بوقود الفقد/في الطريق الى الناصرية ../يصادفك المخادعون والمخدوعون ،يرفعون رايات المظلومية)
ويكشف الشاعر هنا عن الكثير من المحن والمسكوت عنه والحزن المخبأ في الذاكرة ، ومن حروب تعلن كل حين في زمنهم الحاضر كقدر يطاردهم ليجذر تلك المراثي مرة للأبناء المفقودين ونكد الحزن المترامي لازمان تحقبت في وجودهم .
وهذا التصوير الشعري هنا ياخذ بالقاريء ليرى بام عينه (مكرودية خطوات الجنود ابناء سومر الواضحة التعبْ التعبة وهي تسير على اوراق القصيدة، متماهية مع حروف الكلمات في قراءته التأملية كقراءة لازمة مابعد القراءة الاولى ليرى روح الكلمة وهي تتعذب امام القاريء، ويمكن ان نلاحظ من قرائتنا التاملية مايخلق الشاعر «عدنان الفضلي» من مناخ النص بمأساته ومتعلقاته وفق بناءات لغوية التصقت بمثولها بين الشاعر وسومريته لتفضي لجسد موحد في النص وبمختلف تلاوين انوجاده السومري وهو يمتد ظاهراً امام القاريء بشكل مقاربة للإتمام في الخلق الشعري.

بريد الفتى السومري
وكان لأحايين حضور المتداول اليومي والشعبي والفلكلور ضرورات لما يقرب روح التعبير والتصوير الشعري لفحوى ومعنى وهجس الشاعر ويضعه امام قبول القاريء ليتلقيه بإستإناس ولذة. كما في القصيدة المعنونة للمجموعة (بريد الفتى السومري):
(لي .. بريد الفتى السومري/يراسل أنثى .. من بيت البنفسج جاءت/تخاذل عند شفتيها الدعاء/فاستبدلته بقميص أحمر/وأظفار تجيد الغرز والملامسة/لي .. فسحة من ضياء/تقف خجلة …/إذا ما مرّ طيف النون يسبقه الندى/او افترّ ثغرها عن ابتسامة متشحة بالبياض/لي .. كل هذا وأكثر/شريطة ../أن أقبض على أزرار قميصها)
وهنا نلاحظ نص شعري مؤثث من روح الشاعر واشتغالاته المعرفية،حيث تمازج لسانيات اللغة وسيماءاتها لتحقيق الاكثر من انوجاده السومري داخل النص بلا مغاثة بل بطرب جمالي وترحيب شعري بالانصهار بين تداخل الالفاظ والتراكيب اللغوي والرابط الدلالي منهما.وقد كانت سايكولوجية النص اقترنت بسايكولوجية الشاعر التي تماثلت واضحة بالمقارنة حين نبقي على الشاعر ولا نموته هذه المرة ونحن نراه متمددا بزمنه الابداعي على طول جسد المجموعة الشعرية.
وفي ص57 يقول النص «الحرب بلغتها الأم» ( من ثقب في جدار عتيق/ يطلق التاريخ اغنية اليتامى المتجددين/ يذكّر الازقة بخطوات الصبية الحفاة/ الذين صاروا فيما بعد..حطبا لحفلات الشواء المجانية/ التي تسمى سهوا(الحروب)/ لم تكن قصتهم مكتملة/ بالقدر الذي يسمح لنا بأن نصفق للجنود/ الذين تركوا خلفهم يتاماهم/ من اجل ان يكتب التاريخ..على ذات الجدار العتيق/ المجد للجنرالات).
وللوصف الفاجع هنا ومن دلالته المتسربة من مدلول المستعمل التعبيري والمفردات مثل(اليتامى، وبوصفية اليتامى المتجددين بتوالي الفقد المتواصل للأباء ،يشحن الشاعر بالكثير من الفاجعة والإيلام والحزن وهو يُصَير يتاماهم… اولائك الصبية الحفاة والذين سيدخلون هم ايضاً الى الطابور اللاحق كل حين للذاهب للحروب القابلة لاولائك الحكام شاعلي الحروب،وكل هذا و نرى الغرائبية المفجعة من التمجيد للضباط جنرالات الحروب هذه وتصوير الشاعر لمأساة منتجهم من فقدان وبؤس حياتي.

ثقة الشاعر بما يكتب
كان لمائز البناءات وتلاحمها المقبول مع الخطاب الشعري، قبول مستأنس لدى المتلقي لما أظهر صدق ذات الشاعر في تجلياته مع ذاتوية الثيمته المتمثلة بفخره السومري وانتماءه حد رؤيتنا لتمدد الانسان «عدنان الفضلي» طويلاً داخل النص وبإنغامس بملفوظ اللغة قل مثيله، ليقربنا بتذكرنا لتعبير الشاعر «عدنان الفضلي» الواصف لطيران لغته ونزولها روح ينفخ فيها سومريته بجمال شعري ملائم في قوله(اصابك خبل المفردات) في حدى نصوصه، والمتأتي من صدقه وثقته بما هو عليه من مثول داخل النص ومن خلال وصفه هذا لروح لغته المستعمله والمتسامية مع الذات التي تخوض لعبة التحريض والرفض والجذب والتمرد ، مثلما تحمل هاجس الرؤيا بوصفها كشفا ومجسا للتطهير، لما يحمله الشاعر من ميراث لوجوده ولجسده المترامي بعيدأ ، اذ تتحول القصيدة الى مجال رؤيوي لكتابة ماتراه الذات المسكونة بحسيتها المفرطة، وفتنتها، اذ ينسلّ معها الشاعر باتجاه تحويل فعل الشعري للسانيات اللغة الى احساس عال بالوجود والمعنى والتجلي.
وفي قصيدة (حروبك المتناسلة) في اهداءه الى ناجح ناجي في محنته مع اللاجدوى، يقول:
(نعم ياصديقي../اعلم انك…/من ألف خاصرة أتيت/ومن ألف رمح تتحذر/نعم…/واعلم انك مازلت في داخلك../داخلك المتجذر في سومريته/القابض أبدا على الندى/لكنها الحرب ياصديقي…)ًص35
ليرى ان صديقة الشاعر «ناجح ناجي» هو الاخر مخلوق سومري ومن الجذر العميق له
(عن ليل البنفسج) حيث يقول :
(.. هي زهرة …/ان جاورتها…/اصابك خبل المفردات/وجاسك بعض من هذيان العشق/وحتى تكون قريبا من مفاتنها/وقابضا على تفاصيل انوثتها/عليك ان تبحث عن مسار/يؤدي بك الى ../»ليلة من ليل البنفسج»)…ويظهر هنا توجه الشاعر وحرصه اللغوي الدقيق بمثل مسار يؤدي به لحلمه المعبر عنه بمثل «ليلة من ليل البنفسج» وما في تعبير»خبل المفردات» من الدلالة المفارقة والمغيرة لكلمة – خبل- ومن قدرتها على عبور المألوف وخراق المعقول كتعبير خارق للغة الشاعر .
وفي نص عن فقدانه الكبير»أسئلة إلى ولدي الراحل «غزوان»
(كيف النسيان…/وصرير الاب يذكرني /انك آخر من يسمّر وجه الليل /وأنك وحدك لا شريك لك../في الهمس قبيل الفجر..؟/كيف أتقبله /عمر خال من شكواك /وساعات الليل../المليئة بقلقي من جنونك..).
هذا الرحيل الذي يحاصره بلا حجة نسيان له وقد اشاعت كل الاشياء امامه مذكرة له.
في الختم اقول …لقد رأيت بأم عيني اورنمو في اوراق المجموعة كما سمعت عشتار وكان الفضلي مذهولاً بحبهم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة