دوقلة .. وتشيخوف !

من يقرأ نتفاً من سيرة الكاتب الروسي العظيم انطون تشيخوف، يدرك على الفور أن الإنتاج الغزير هو في الغالب ظاهرة إيجابية، وأن من يمتلك الموهبة قد يكون مكثراً أو مقلاً. فغزارة الإنتاج مرهونة بالوقت، والظرف، والولع بالكتابة. وهي أمور قلما تجتمع لدى إنسان.
يقدر عدد ما خلف تشيخوف من قصص ومقالات وروايات ومسرحيات بالمئات. ولم يكن هناك في عصره من يدانيه في سرعة الكتابة. فقد كانت الأفكار تتدفق في خاطره حتى آخر يوم في حياته. ولو قدر له أن يعيش ضعف ما عاش بالفعل (44 عاماً) لكان عطاؤه مستعصياً على الحصر، وربما كتب ما هو أفضل، وأغنى، وأجمل.
وقد لفتت كتاباته اليومية غير العادية في الصحف الأنظار منذ أن دخل كلية الطب عام 1879، وكان مضطراً لذلك. فقد كان يعول على الكتابة في سد نفقات دراسته، والتخفيف من حدة الديون التي أثقلت كاهل والده.
كانت معاناته الطويلة السبب في رفعه إلى مصاف كبار الكتاب. وحينما أصبح طبيباً لم يكن يحصل إلا على القليل من المال، فقد دأب على علاج الفقراء مجاناً. إلا أن سوء الحظ لازمه، فاستوطن المرض في رئتيه. واضطر للانتقال إلى أماكن ذات مناخ معتدل للاستشفاء، لكنه لم يتوقف عن الكتابة أبداً.
على الطرف الآخر كان هناك مجيدون مقلون. فقبل أكثر من نصف قرن، نشر أحد الشعراء الراحلين كتاباً أسماه شعراء الواحدة، أورد فيه أسماء مجموعة من الشعراء العرب الذين لم يخلفوا سوى قصيدة يتيمة، كانت السبب في شهرتهم، وذيوع أسمائهم، واحتفاء الناس بهم. لأنها حوت كل ما يستوي القارئ من التفرد والجمال.
ولا بد أن هؤلاء الشعراء أنتجوا في حياتهم الكثير، لكنه ضاع بسبب ندرة التدوين. وكانت يتيماتهم من القوة والجزالة وحسن السبك، ما جعلها تقاوم الزمن. وأذكر أنه أتى من بينها على القصيدة الدعدية التي أودت بحياة صاحبها وهو شاعر مغمور اسمه (دوقلة المنبجي) ومطلعها (هل بالطلول لسائلٍ ردُ / أم هل لها بتكلم عهدُ / لهفي على دعد وما خلقت/ إلا لطول بليتي دعدُ). وهي من عيون الشعر العربي القديم، وغرره.
إن أمثال تشيخوف قليلون في عصرنا هذا، كما أن أمثال دوقلة المنبجي قليلون أيضاً. وميزة الأول أن ظروفه السيئة دفعته للعمل المتواصل، والإنتاج الوفير، فأخرج عدداً هائلاً من الكنوز. وربما كان سيخلد للدعة، ويستسلم للكسل، لو كان غنياً ميسوراً. وأغلب الظن أنه لم يكن ليفعل ذلك بعد أن أدركته حرفة الأدب، وذاق حلاوة النجاح. أما الثاني فقد خسر حياته بسبب حبه لأميرة من أميرات العرب اسمها دعد. فلم يجن من ذلك إلا حسد الحاسدين. ومات دون أن يحظى منها ولو بشهقة إعجاب. وكان يمكن أن تكون له مكانة رفيعة في الأدب العربي لو بقي من تراثه الكثير.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة