نظام “التفاهة” ليست الجملة أو العبارة أو الشعار الذي اخترته أنا العبد المسكين لكي أصف به نظام الحكم الحالي أو الأنظمة السابقة المتعاقبة على مدى العقود والقرون الماضية، وإنما “نظام التفاهة” (Mediocratie) الذي نقصده هو عنوان كتاب أطلقه الفيلسوف الكندي المعاصر ألان دونو، هذا الكتاب الذي شغل الدنيا وأقامها ولم يقعدها منذ طرحه في المكتبات والى يومنا هذا، حيث حظي باهتمام المفكرين والمهتمين في شؤون السياسة والاقتصاد والمجتمع والفلسفة والثقافة وغيرهم.. في أرض الله الواسعة.
نظام التفاهة.. فتح باب النقاش على الكثير من بواطن الأمور والخفايا والقضايا والإشكاليات والازدواجيات التي نعيشها ونتعايش معها في السراء أو الضراء.. وما الذي فعله ويفعله “التافهون” بنا وبمصائرنا وبأحلامنا ومجتمعاتنا.. ولهذا يقول دونو “ربح التافهون الحرب، وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه”، ومن الأسباب التي يعزو “دونو” ذلك إليها تغير مفهوم العمل في المجتمعات. يقول “إن «المهنة» صارت «وظيفة»، صار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير، يمكن أن تعمل عشر ساعات يومياً على وضع قطعة في سيارة، وأنت لا تجيد إصلاح عطل بسيط في سيارتك، يمكن أن تنتج غذاءً لا تقدر على شرائه، أو تبيع كتباً ومجلات وأنت لا تقرأ منها سطراً”!
وعن تأثير أنظمة الحكم في دعم “التفاهة” يضرب “دونو” مثلاً أنه عندما جاء التكنوقراط في بريطانيا إلى الحكم، استبدلوا السياسة بمفهوم «الحوكمة»، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم «المقبولية المجتمعية»، والمواطن بكلمة «الشريك»، في النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة»، لا منظومة قيم ومُثل ومبادئ ومفاهيم عليا، وصارت الدولة مجرد شركة !
أما كيف يمكن مواجهة نظام التافهين..؟ يقول دونو: “ما من وصفة سحرية، فالحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين، جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية، بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها، إنه خطر «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة.”
ونحن نقول إن أصابت نظرية “دونو” أو أخطأت يبقى الواقع على الأرض هو الذي يفرض نفسه على طبيعة المجتمعات !
وأنا أتحدث مع صديقي عن هذه النظرية العصرية طلب مني بدوره تعريفاً لـ “التفاهة” فقلت له: إنها ليست “مفردة” جديدة أو مبتكرة، حتى أجتهد أنا في تفسيرها بل إن مجتمعنا كما تعرف يردد هذه المفردة كلما رصد حالة أو تصرفاً سلبياً من شخص يتصف بالحمق أو الحقارة أوالتفاهة أو ضعف الشخصية فيقولون مثلا “هذا شكَد تافه”!
أما أنا فأجد أن من التفاهة.. أن تنتقد موضوعاً أو قضية ما.. وأنت تجهل حقائق الأمور ولا تمتلك أوليات الموضوع !، كذلك فإن من “التفاهة” أن تخرج في تظاهرة أو مسيرة احتجاجية.. وأنت لا تعرف الدوافع والجهات التي تقف وراءها ..!
ومن التفاهة.. أن يبحّ صوتك وأنت تهتف أو تقوم بترديد الشعارات من دون أن تعرف مغزاها أو معناها !
ومن “التفاهة” أن تردد كالببغاء.. الكلمات التي يرددها الآخرون من دون أن تكلف نفسك عناء مراجعة فحواها.. والتأكد من صحتها أو عدمها !
ومن “التفاهة” أيضا.. أن تتقافز وترقص على “حس الطبل” وأنت لا تعرف أنغام الطبل ولا من هو الضارب عليه !
ومن “التفاهة”.. أن تتحول الكثير من وسائل الإعلام والصحف الى وسائل للابتزاز والتشهير والتسقيط والقذف والذم !
ومن “التفاهة” أن تضطرك الأقدار الى محاورة ” من لم يمسك قلماً في حياته.. ولا يتقن من الصحافة سوى لغة الشوارع الخلفية والسطحية..!
• ضوء
قفز “التافهون” الى السطح، فسقط “الحالمون” منه ..!