قراءة في مسرحيات (الصمت : أنه الصمت) لـ عبد الحليم مهودر

سطوةُ الجسد
عبد السادة البصري

العروض المسرحية الصامتة التي نشاهدها بين حين وآخر ــ المايم / البانتومايم ــ هي فن التعبير الإيمائي للجسد فقط ، بدون كلام حتماً ، وهذا يعني إن هذا النوع من العروض ممهور بما سيقدمه الجسد من تعابير حركية إيحائية تمنح المتلقي / المشاهد الحرية الكافية بتأويل تلك الحركات / الإيماءات كيفما يبصرها في دخيلة نفسه ، لكنه في آخر المطاف سيصطدم بحكاية قصيرة أو طويلة قدمها الممثل عبر هذه الإيماءات الجسدية !!
هذا النوع من العروض قديم جداً بقدم المسرح الروماني واليوناني وكذلك العروض والاستعراضات البابلية والسومرية ، لكنه لم يأخذ مكانه الطبيعي بالشكل الصحيح لصعوبته في التقديم فظل ملازما للعروض العسكرية والرقص والباليه فقط !!
هناك إيماءات وإشارات يؤديها الصم والبكم تختلف عن البانتومايم لأنهم يؤدونها بأصابع اليدين وحركة العيون فقط ، لكن البانتومايم يعتمد كليا على جميع أجزاء الجسم ، بمعنى إن الجسد يشترك بكل أعضائه في تقديمها مصحوبا بالموسيقى ،ليس اليدين والعينين فقط بل كل جزء منه ، وهنا محور الاختلاف بين لغة الصم والبكم والبانتومايم ، كذلك هناك اختلاف بين العروض العسكرية والتمثيل الصامت أيضا ، كون العروض العسكرية تعتمد على الحركات القتالية والرياضية فقط ، أما البانتومايم فيعتمد على كل نأمة وحركة وإشارة وتدويرة عين !!
(عبدالحليم مهودر ) الكاتب القصصي والروائي والمسرحي قدّم لنا كتاباً يختلف عن الكتب المسرحية الأخرى ، انه كتاب يستنطق الصمت بصمتٍ آخر ، بمعنى إن للصمت هنا سطوة نكاد نشعر بها ونتلمسها في كل مسرحية كتبها لهذا نجده قدّم الكتاب بثريا نصٍ ذات مغزى كبير ــ الصمت :ــ انه الصمت ـــ أي بمعنى تأكيده على الصمت هنا عبر حواريات هي أجدى بالحركات منها بالكلام ، ففي مسرحياته التي قاربت الــ 8 مسرحيات صامتة منحنا فسحة للتأمل والاسترخاء ثم الشدّ والتركيز على حركات شخوصه الذين اختلفوا مابين الكائن الحي والجماد واللون ، إذ نجده في مسرحيته الأولى ( النقد ) يعتمد على تعددية الألوان ( تمازجها وتماهيها ) عندما يتعامل معها الإنسان بطريقة تقتر ب من العشق اللا متناهي ، ثم في ( القلم والورقة ) مسرحيته الثانية يتعامل مع الجماد ، بعدها في ( شعاع الماضي القريب ) يأتي بشخوصه من الذاكرة ، بل من أغوار التاريخ ليلبسهم لباس الحاضر ويسقط عليهم وعيه في سبر أغوار التراث ، لكنه في مسرحية ( أطوار ) يتعامل مع غائبين حاضرين وهما ضمير الغائب للذكر والأنثى ــ هو ،، هي ــ ، أما في ( شخابيط ) فيسجل نقطة إضافية له من خلال اعتماده على آلية احتساب سنوات عمرنا وكيفية التعامل مع ذواتنا في كل مراحل العمر ( الطفولة ، الصبا ، الشباب ، البلوغ ، الكهولة ) وكأن العمر شخابيط على حائط مررنا به ذات يوم ليؤكد ذلك في ( النقطة والخط ) حيث يتوحد الإنسان مع ذاته في خط مستقيم هو ذلك الشخص الواحد وهو كل ما نملكه من ارث معنوي في الحياة ، ثم يختتم رحلته بــ ( العيون التي .. ) وهنا يعطي انطباعا كليا إن العيون هي التي تحكمت بكل ما مر أمامنا من مشاهد حيث إننا لم نسمع كلمة واحدة نبر بها أي ممثل على المسرح !!
هنا وفي هذه المسرحيات يستخدم الكاتب مهارته في تحريك الممثل بطريقة السيناريو إذ يجعله مخرجا وممنتجا ومؤديا في نفس اللحظة ، انه يتحكم بالديكور وطريقة تغييره مع كل حركة من خلال توجيهاته وتلميحاته بطريقة الحركة المستخلصة من المشهد ذاته ، تراه ساعة يستخدم طريقة الصم والبكم ثم يضيف عليها حوارا آخر نبصره عند إشراكه الحيوانات في الأداء ــ الذئب ، الأفعى ، الأسد ، الثور …الخ ـــ أو الجماد مثل ( الورقة ، القلم ، الشجرة…. الخ ) كذلك الألوان ، ففي هذا الحوار الأدائي طبعا والذي من غير الممكن أن تقوم به هذه الشخصيات غير الحية بل ستكون عاملا مساعدا في حركة الممثل الإنسان ، الكاتب هنا أشرك الطبيعة في مسرحه وأعطاها ادوار بطولة ، حيث نجد انه في مسرحية ( النقد ) قد جعل من الألوان شخوصا متحركة !!
عبدالحليم مهودر في مسرحياته الثماني هذه لم يترك للصمت فرصة الركود والخمول والتماهي في الفراغ ، بل جعله مهيمنا كليا على كل مشهد ومن خلال هذه الهيمنة تحول الصمت الى كلام قوي ومؤثر جدا في المتلقي ، كما نجده قد منح لذاته الإنسانية هيمنة أخرى موازية لهيمنة الصمت من خلال وجوده كشخصية محورية في كل مشاهد المسرحيات ــ البهلوان في مسرحية النقد ،والشخص في القلم والورقة ،والرجل / الكاتب / النحات / العازف في شعاع من الماضي القريب ، هو وهي في أطوار ثم رجل / طفل في شخابيط ،وشخص في النقطة الخط ، ومحمد / سحر في العيون التي ـــ وهذا يؤكد بأنه أعطى للكائن البشري الدور الأكبر في صياغة الحوار التعبيري خارج الصمت ذاته .
لقد أثبت في مسرحياته هذه إن للصمت سطوةً مهما فعلنا من حركات وإيماءات لتغطيتها لم نستطع !
لهذا أعطانا مفتاح مغاليق مسرحياته منذ البدء بعنوانه الكبير ( الصمت :ــ انه الصمت ) مؤكداً عليه بشكل كامل وبوعي ومعرفة دقيقتين .

## الصمت : انه الصمت ( مسرحيات ) مايم / بانتومايم ،،، عبدالحليم مهودر ،،، إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة 2008 على نفقة شركة آسيا سيل للاتصالات.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة