أسطرة الواقع روائياً.. مدخل ديني

كريم كطافة

لأن الرواية تخوض في تفاصيل الدين الأيزيدي ومعتنقيه في منطقة جغرافية محددة (سهل الموصل)، ولأن هذا المنطقة تعرضت لأبشع جريمة في تأريخ الإنسان؛ قتل الرجال وسبي النساء لأسباب دينية معلنة أرتكبها مسلمون منشدّون لأحكام شريعتهم.. يكون لا بد من مدخل ديني مركز عن ماهية هذا الدين موضوع الجريمة.
الدين الأيزيدي دين رافديني أنوجد في هذه الأرض منذ أزمان سحيقة في القدم. بل ولعله مع الديانة المندائية من أقدم الديانات على وجه الأرض الباقية إلى الآن. اختلطت عروقه البعيدة وتشابكت مع ديانات كثيرة. وهذا يتجلى واضحاً في طقوسه التي يمارسها أتباعه الآن. أما (طاووس ملك) الذي حدثت أحداث الرواية في ظلاله، فهو ليس بإنسان كما هو ليس بإلاه ولا حتى نبي. هو وفقاً لمعتقدات هذه الديانة ملاك مرسل إلى الإنسان من قبل إلاه النور.. الإله الأوحد خالق الكون من درة بيضاء بقشرة سميكة من الظلام. وظيفته حفظ بذرة الخير والعمل الصالح في الإنسان. ونجد لهذا الملاك تجسدات عديدة في الأديان المجاورة. وهذا أمر معروف لدارسي تأريخ الأديان.. كل دين جديد يبني ركائزه على هياكل تعود لدين سبقه بإضافات وتطويرات تشمل وظائف الآلهة ومساعديهم؛ كأن يتحول إلاه من خيّر إلى شرير لدى شعب آخر.. أو آلهة يجري تهميشهم ودفعهم بعيداً عن الذاكرة حتى بالكاد تُذكر في الأزمان اللاحقة.. أو آلهة أخرى تمجد وتُرفع إلى أعلى المراتب.. وصولاً إلى عمليات الإختزال الكبرى التي جرت في أرض الرافدين والتي بدأها العبرانيون الذين فردوا (يهوه) بوصفه إلههم القومي والوحيد واجب الإتباع دون بقية الآلهة.. حتى وصل الأمر إلى اختزال كل الآلهة بإلاه واحد أحد أخذ على عاتقه كل وظائف الآلهة التي كانوا يتشاركون بها إدارة الكون. رغم أن آثار تلك الآلهة المتنحية ظلت عالقة في أهداف الديانات التوحيدية الجديدة عبر عملية تحويلهم إلى ملائكة وليس آلهة.. وهذا مفهوم جديد خرج من عباءة الديانة اليهودية.. غير أن احتفاظهم بأسماءهم القديمة ظل يشي بوظائفهم ما قبل التهميش؛ من مثل عزرائيل، جبرائيل، إسرافائيل، ميكائيل.. إلخ سلسلة مساعدي الإله إيل الرافديني- الكنعاني

الرواية تتخذ من علاقة حب بين (ميرزا وهنار) وهما طفلان يكبران معاً في بلدة (بحزاني) الكائنة على سفوح جبل مقلوب، مدخلاً إلى تراجيديا الدين الأيزيدي. الحب ينتهي بفاجعة تخص (هنار) وتدفع ميرزا إلى ولوج عالم التصوف والعرفان في طيات الديانة الأيزيدية وصولاً إلى ذوبان جسده وموته وهو يحتضن قبر حبيبته. ومنذ البداية سارت الرواية على خطين متوازيين يلتقيان غالباً ويعودان للإنفصال.. الأول هو خط الحدث الروائي وهو الحب الذي وصفه الكاتب (الراوي) ومنذ البداية أنه حب طاهر نقي غير ملوث بأي دنس بشري؛ حتى بدا لي وأنا أتابع بلاغة الوصف أنه يتحدث عن حب بين ملائكة أو كائنات مقدسة لا يمكن وصفها إلا بالنقاء، الصفاء، الطهر، الصدق، الإخلاص، الوفاء، حب الخير.. إلخ وليس بشر لهم ما للبشر وعليهم ما عليهم. ولعل السبب في هذا المنولوج المقدس كونه أراد (الكاتب) تطويع حكاية حديثة مع أسطورة قديمة حملت ذات الأسماء كذلك (ميرزا وهنار). ما يعني أنه قام بعملية أسطرة للواقع. أما الخط الثاني فكان خط التأريخ المعطى تارة من قبل الجد (جد الطفل ميرزا) وتارات من قبل الكاتب نفسه (الراوي). حتى بدا لي وكأنه قد ضحى أو كاد أن يضحي بالرواية لمصلحة التأريخ (تأريخ الدين الأيزيدي). والسبب باعتقادي نابع هذه المرة من الموضوع نفسه، كونه يتحدث عن دين لاقى الكثير من اللغط والتشويه من قبل معتنقي الديانات المجاورة له وعلى الأخص الدين الغالب (الإسلام). لذا هو بالكاد معروف من قبل غالبية السكان المتواجد بين ظهرانيهم. دين مغلق على أتباعه مكتف بذاته ولذاته. ما جعل الكاتب يضحي بالكثير من السرد الروائي لصالح السرد التأريخي التعريفي بالطقوس والمعتقدات.

وهذا ما لفت إنتباهي ومنذ البداية، مقدار الجهد الذي بذله الكاتب في ملف البحث. حتى بدت لي المعلومات الوفيرة حول بلدة (بحزاني) الأيزيدية أشبه بأنسكلوبيديا لهذه البلدة. والتي هي لا تعدو أن تكون قرية كبيرة. إذ لم يمر مسمى واحد إن كان لعين ماء، شجرة زيتون، شجرة بلوط، مزار ديني، وادٍ، حيوان، وردة…إلخ دون أن أقرأ عنه كل ما يخصه منذ إنبثاقه في المكان والعائد لماض بعيد إلى حاضره.. في المحصلة معلومات وجدتها في كثير من المواضع قد أثقلت السرد الروائي. تجد عشرات الصفحات لوصف شجرة الزيتون ومثلها لوصف وردة الجلنار أو شقائق النعمان أو النرجس، ناهيك عن تفاصيل جبل مقلوب الكائنة بلدة (بحزاني) في أحد سفوحه.

اتخذ الكاتب من هذه البلدة بؤرة لروايته، جاعلاً منها أنموذجاً للمكان الأيزيدي. علماً أن اللغة المتداولة في هذه البلدة والبلدة المجاورة لها والتي اقترن اسميهما معاً في ذاكرة المكان (بعشيقة)؛ هي غير اللغة التي يستخدمها الأيزديون في الغالب اللغة الكوردية الكرمانجية.. لغة هاتين البلدتين هي اللغة العربية، لكنها المطعمة والمدافة باللهجة المصلاوية ولهم بالطبع مفرداتهم الخاصة في وصف الأشياء والمسميات. ومن خلال ما يمارس في هذه البلدة (بحزاني) من طقوس دينية وهي بمجملها طقوس لها علاقة بالحضارات الزراعية القديمة في وادي الرافدين، غاص الراوي في أحشاء هذه الديانة ميثولوجياً وطقوس وتأريخ. أولاً ؛ عبر ذاكرة الجد (جد ميرزا) وهي ذاكرة متخمة بالإبادات التي تعرضت لها هذه الطائفة الدينية من قبل أتباع الأديان الكبرى لتحويلهم عن دينهم وثانياً عبر معلومات الكاتب (الراوي) وهو يعود بين الفينة والأخرى إلى التأريخ البعيد على هذه الأرض إلى الديانات السومرية، البابلية، الآشورية، الزرادشتية.. مروراً بالعبرانيين والمسيحية والإسلام. حتى لتبدو هذه الديانة من خلال طقوسها ومعتقداتها مثل بلورة مضلعة كل ضلع منها يعكس لك طقساً ما أو عقيدة ما، رغم تمسك أتباعها وإصرارهم؛ أن ديانتهم وعقيدتهم هي الأصل الذي ظل محافظاً على طهره ونقاءه بعيداً عن موجات الأديان والعقائد التي حلت في المنطقة.. ويكفيهم أنهم دفعوا اثماناً باهضة لهذا التمسك بديانتهم. فقط في الزمن العثماني تعرضوا إلى 72 فرمان إبادة، بدعوى الكفر.. رغم أنها ليست بالديانة التبشيرية التي تزاحم الأديان الوافدة على هذه الأرض. وكانت آخر الإبادات ما فعلته عصابات داعش الدينية السلفية في سنجار والموصل من مجازر قُتل بها الرجال والأطفال وسبيت النساء، لتباع في سوق الرقيق الذي استحدثوه من دهاليز ظلام شريعتهم. الرواية مرت مروراً خفيفاً على الأحداث الأخيرة، كان شاغلها منذ البدء التأريخ.

ويظل ما يلفت الإنتباه؛ أن كاتبها (حمودي عبد محسن) كتب روايته بحس تماه فيه إلى حد الذوبان مع مآسي هذه الطائفة الدينية سواء مآسي التأريخ أو مآسي الحاضر.. كتب وكأنه فرد من بلدة (بحزاني).. عاش طفولته هناك وخبر أزقتها وبيوتها وعوائلها وهو يتذكر كل علامات الذاكرة من أكبرها إلى أزغرها. بما فيها سجل الأساطير التي يتداولها الناس شفوياً، أسطورة (محمد وشيرين) أو الشرير (فريق باشا) والأسطورة الأصل (ميرزا وهنار).. وأجملها تظل حكاية (الغزال الأبيض) الذي يصل إلى بحزاني كل مئة عام مرة واحدة.. يشرب من ماء النبع ويحتك بالصخور ليترك خلفه حبيبات من المسك تكون لقية ثمينة لمن يحصل عليها، بل هي لا تقدر بثمن. كل هذا والكاتب لا ينتمي أصلاً لهذه الديانة ولم يعش في بحزاني باستثناء ربما زيارة ميدانية لمرة واحدة أو مرتين للبلدة.. وفوق هذا وذاك هو قادم من أقدس مدينة لدى المسلمين الشيعة؛ مدينة (النجف). ورغم علمانيته التي جعلته يماهي بين المعتقد الأيزيدي حول أسطورة الخليقة وبين النظرية العلمية المعروفة (الإنفجار الكبير) أو (Big bang) غير أن الجذر الديني لمدينة طفولته ويفاعته كان واضحاً في طيات اللغة.. إذ أعتمد لغة تغلب عليها البلاغة والرونق والبديع في وصف الأحداث والأشخاص.. أو لجهة دخول قصص دينية تعود أصلاً للديانة الإسلامية على سرده وكأنها من داخل المعتقدات الأيزيدية.

الكتاب: حب في ظلال طاووس ملك
المؤلف: حمودي عبد محسن
صادر عن (بيت الكتاب السومري) 2017

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة