الديمقراطية في أميركا

يتناول كتاب “الديمقراطية في أميركا” للباحث والخبير شبلي ملّاط، ظاهرة مهمة للغاية على الصعيد العلمي وعلى الصعيد السياسي، ألا وهي تشريح العملية الديمقراطية، وتشريح النظام الديمقراطي، ولعل أفضل طريقة لإنجاز هذا الهدف المهم في عالمنا وفي بلدنا الباحث بلهفة عن انموذجه الديمقراطي أنه يرتكز على دراسة حالة عيانية مهمة وهي حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة.ومن القضايا المهمة في هذا الكتاب ارتكازه الى واحدة من أهم المرجعيات في الدراسات الديمقراطية أليكسس دي توتكيفل الذي يعدّ أهم المراجع المتاحة لدراسة هذه التجربة.
وكذلك تكمن أهمية الكتاب في أنه يشير الى التحولات الجديدة في العالم الراهن وهي تحولات لابد من وضعها في إطارها التاريخي والإنساني.وهو أيضا يرسم الطريق لمجتمع بلا عنف، ومجتمع يرتكز على التعاون والتفاهم الإقليمي المرتكز على نشر قيم المساواة، ومحاربة الفقر، ونبذ الاستغلال الاقتصادي للشعوب.
كما أنه يتيح للقارئ إدراك إمكانية خلق نظام عالمي واسع من دون أوهام التسلط الإمبريالي أو الدكتاتوريات الأيديلوجية، ويعلي بشكل كبير دور العدالة والقضاء في تنظيم التوازن الاجتماعي وتعزيز القيم الحضارية والانتصار للعدل والحياة.
تنشر “الصباح الجديد” حلقات من هذا الكتاب كإسهام في تعميق الجدل والمعرفة وتوسيع دائرة العلم بالمناهج والمراجع الضرورية للعملية الديمقراطية بنحو عام وفي العراق بنحو خاص.
الحلقة 11
شبلي ملّاط:

9 – ملامح سياسة علمية
انتصار الحياة وغزو الفضاء
قد يكون صحيحاً ، في سياق البحث عن قيم اقتصادية مبتكرة ، أن التنبؤ مستحيل في ما ينطوي عليه العلم من احتمالات التقدم ، وأن عنصر الانتاجية التقنية في المعادلة الاقتصادية عصي على الحساب العلمي والتخطيط الحكومي . فلو تم يوماً ما تحديد هذا العنصر بدقة كافية ، لن تكون عند ذاك السياسية الاقتصادية والاجتماعية مثل ما عهدتها الانسانية في المحاولة المستمرة عبر التاريخ للسيطرة على مصيرها.
وفي غياب العصا السحرية القادرة على توفير مفتاح الاقتصاد المستقبلي ، تبقى الاكتشافات العلمية في مملكة الغيب ، ويصعب على الحكومة وعلى أوساط الاعمال أن ترصد مآلها ( فالاكتشاف ) يتماهي أصلاً مع المجهول والمفاجئ، هذا اذا لم يكن الاكتشاف كلمة مرادفة للاعجوبة . والامثلة لا تحصى ، من أرخميدس ومغطسه الشهير الى البريد الالكتروني الذي نتج عن طلب البنتاغون من كليات الهندسة في ضواحي مدينة سان فرانسيسكوا إبتكار نظام أمين للاتصالات العسكرية في حال نشوب حرب نووية في السبعينيات . وهذا المشروع المعروف يومها بالاربانيت Arpanet ، – وهو مشروع عينه الذي غطى العالم بأسم الانترنيت فيما بعد – ولد مابين جامعتي بركلي وستانفورد ، وهو لا شك أفضل المشاريع الاقتصادية والعسكرية إطلاقاً في مجموعة المشاريع التي أشرفت عليها وزارة الدفاع الاميركية في التاريخ الحديث.
وفي المنطق السائد حالياً للدول-الامم Estas-nation(او الدولة القومية، كما درج الاستعمال غير الدقيق للمفهوم)،يأتي رسم التصور الذي يمكن الرئيس الأمريكي وحده الاشراف عليه تحت عناوين عدة نتناول بعضها في سياق ملاحظات اولية عن البعد الدولي للسياسة العلمية.
فالجهد العلمي يتم في غالبه داخل الاطار الذي يحدده نظام الدولة القومية وعملاً بهذا المنطق ، فأن تقدم الامة العلمي يحظى بدعم وطني يؤمن هالة من السرية تذكر بالكتمان الذي كان النساك يتمسكون به للمحافظة على سر صناعة البيرة في القرن السابع عشر . لكن العلم يحتاج اليوم الى قفزة نوعية في التعاطي مع سعة امكانيته الهائلة ، تتخطى منطق الأمة – الدولة ، وهذه الامكانية مرهونة بلجم لبعض المفاخر الوطنية المتصلة بجنسية العالم ويوسع العمل العلمي على المستوى الدولي بدلا من الرهان المقتصر على التقدم القومي والوطني . وهذا الابتعاد عن اطار الامة الدولة في الحقل العلمي وحده الرئيس الامريكي قادر على المبادرة به على المستوى العالمي .
فقد باتت ارضية العلم الوني الشامل متوفرة ، وقد رافقتها القرية الكونية وثورة البريد الالكتروني . والافاق الجديدة للعلم الامريكي هي افاق ترتبط فيها الجهود الوطنية بنظام دولي ، وهذا يتطلب ترتيبات محددة للتفاعل في مجال البحث العلمي على مستوى عالمي ، وقد بدأت اوروبا في رسم بعض هذه الترتيبات في فضاء اممها المتحدة الخاص .
ومن وجهة نظر تطبيقية ، فأن الديمقراطية التي احدثها الانترنت جعلت التكاتف الدولي في البحث العلمي حقيقة ناجزة . الا ان هذا الانجاز مقتصر حتى الان على نتائج البحث العلمي ، ولا يتعداها الى سبل البحث نفسه ، لأن الاطارات الطاغية ما تزال مبنية على القومية الوطنية التي يقوم عليها نظام الدولة – الامة ، ناهيك عن قوانين الملكية الادبية والعلمية التي تخطاها الزمن ، وتهدد هذه الاطارات باستمرار المنافسة الصبيانية التي رافقت اكتشاف فيروس Hiv المسبب للايدز ، وقد اختلف أبرع العلماء الاميركيين والفرنسيين سنين طويلة عمن يحق له تبني هذا الاكتشاف ، بدلا من ان يتعاونوا على سبل مكافحة المرض .
وبغض النظر عن المدى الدولي للعمل العلمي ، وهو الذي ما يزال مبتوراً بسبب المنافسة الضاربة بين الامم – الدولة ، يتوجب على الرئاسة الاميركية الكثير على الساحة الداخلية . فعلى الرئيس ان يشكل القاطرة الاولى للجهود العلمية والابحاث المتقدمة ،وان يوفر التوازن المطلوب بين تدخل الدولة بما فيها العقود والهبات التي تشرف عليها الحكومة ، وبين القطاع الخاص ،وبالاخص الجامعات الكبرى ومختبرات التكنلوجيا المتقدمة . وتتقد اميركا الدول في تخصيصها جزءا لا باس به من ايراداتها للبحث والتطوير وهذه الريادة تستحق الدعم المتواصل والتوسيع المستمر .
وعلى الرائس ايضا ان يستبق التصادم في بعض المجالات بين الاكتشافات العلمية وقيم المجتمع الأدبية والأخلاقية ، وان يوفر الالية المعنوية الكفيلة بالأشراف على او في الحلول عند الحاجه ، وقد ادرجنا مثال لها في الفصل السابق عن الاجهاض. ومن بين المجالات الاخرى التي تتحول مواضيع ساخنة وملحة تلك التي تشمل التقدمات البيولوجية على مستويات عدة ،لا سيما الجينوم والاستنساخ الخلوي والمسؤولية في هذه الامور ليست فقط مسؤولية ادبية ،كما يشير اليه انهيار سوق الناسداك فور صدور بينان كلنتون_بلير المشترك في 14 اذار (مارس) 2000 عن مشروع الجينوم الانساني . فبمجرد اعلام الرئيس الاميركي ورئيس الوزراء البريطاني (ان المعلومات الاساسية عن الجينوم الانساني ، بما فيه سلسلة وتفرعاتها ، هي معلومات حرة يجب توفيرها مجانا للعلماء في كل مكان ) انهار مؤشر الاسهم في سوق البيو التكنلوجيا اكثر من 10 نقاط في غضون ساعات . ولا عجب ، فالاقتصاد يختلط بالاخلاقي والقانوني بشكل مميز في عصر العولمة .
واذا كان العلم يتقدم بسرعة مذهلة ، كما في الانتصار الذي احرزه الطب – مرحليا على الاقل – على مرض الايدز في البلاد الغنية ، فقد ضاعت الاصوات التي نبهت منذ منتصف الثمانينات من اخطار تفشي المرض العضال في العالم ، وكانت افريقيا منذ ذلك الحين تجابه احد اشد التحديات ضراوة في تاريخها الحديث جراء انتشار الوباء القتّال فيها .بعد مجموعة من التنبيهات والتحذيرات في اوساط عديدة ، ولا جواب لمن تنادي ، بات المرض يطال في بعض الدول الأفريقية نصف السكان الراشدين رغم توافر المعروفة بالعلاج المثلث في الغرب ، فان سعرها الباهض وسياسة التسويق الباهظة جعلتها بعيدة عن متناول شعوب القاره الأفريقية ، وفي وقت نفسه يصعب على دول افريقيا الوسطى والجنوبية المحافظة على عدد سكانها ، فيسلب المرض فيها مستقبل شعوب بكاملها. ولو توفرت قيادة أميركية نبيهه سنه 1985 ، لتجنب العالم كارثه محتمة ، وقد دقه الاخصائيون ناقوس الخطر يومها .
في حين زهقت بلا داع ارواح الملايين من ارواح الابرياء في افريقيا وغيرها من الدول . وتحرك العالمي ضد مرض الايدز ضروري اليوم اكثر من اي وقت مضى ، وقد باتت الكارثة تشكل خطرا داهما في سائر المعمورة .ومره اخرى ان اميركا وحدها قادرة على قيادة مثل هذه الحملة العلمية .
فشركات الأدوية يهيمن عليها منطق السوق، وهي ليست مستعدة للتجاوب لازمة الايدز في العالم الفقير ، مما يجعل اطار التحرك للمستوى المطلوب لانشاء برامج علمية واسعة النطاق مرهونة بأقدام الإدارة الأميركية على تصدر الحملة داخليا ودوليا .
واذا كان مثل هذا الاقدام نادرا اليوم . الا انه لم يكن غائبا عن بعض الادارات الأميركية السابقة عندما حدتّ من قسوة التاريخ وطوعت مساره المستعصي . وتاريخ العلم يترادف في العصر الحديث مع نجاح مشاريع عملاقه على غرار خطيه مانهاتن التي ادتّ الى تدجين الطاقة النووية . ومشروع ابولو الذي ادى الى وصول الانسان الى القمر .
وفي هذا المجال . وفي ضوء روح علميه في اميركا . من المستحسن استدراج العبر من الثورات العلمية السابقة ، وان لم تكن ، باستثناء البعض النادر مسيّره من جان الحكومات . فقد تساعد الدولة على بروز علماء من طراز البرت اينشتاين ،الا انّ دعمها (لمدينه العلم ) غالبا ما يكون غير مباشر.
وعلى هذه الجبهة لا مجال للخوض في تكهنات علمية تفتقر الى الدقة . عندما يكون الهدف واضحا , يمكن الحكومات تشجيع الجهد العلمي لتحقيقه ، لكن يمكنها ايضا انت تخطئ تماما . يكفي هنا العودة الى تنبؤات الخمسينات . بما فيها تلك المتعلقة بمركز الانسان في الفضاء لادراك ان الامور لم تتقدم كثيرا عن انجازات نيل ارمسترونغ سنه1969 . ولم يتقدم النقل التجاري الجوي كثيرا منذ اختراقات طائرة الكونكور في الستينات، بالرغم من الزيادة الهائلة في السفر ، وكان مرتقبا آنذاك ان تستغرق الرحلة من نيويورك الى لندن في نهاية القرن اكثر من نصف الوقت الذي كانت تحتاجه عام 1970 .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة