قبل خراب البصرة

وسط وابل من القذائف الدخانية التي يتعرض لها المتظاهرون والمحتجون في البصرة، هناك قذائف دخانية من نوع آخر تتصاعد في الجبهة الإعلامية، تدفع باتجاه حرف تلك النشاطات الحضارية عن مسارها وأهدافها المطلبية المشروعة وبنحو خاص في مجال توفير فرص العمل لقطاعات واسعة من شبيبتها وخريجي جامعاتها، من الذين فقدوا الأمل في نيل هذا الحق الدستوري، فضلا عن الخدمات الأساسية المفقودة (الماء والكهرباء) وبقية الخدمات التي تعد من شروط الحياة الأولية في المدن الصغيرة منها والكبيرة. ان محاولات دفع غضب الشباب واستيائهم المتصاعد والمشروع صوب المسارب الخطرة، وإيهامه بضرورة تحقيق تطلعاته المشروعة بالعيش الحر والكريم، عبر المواجهة والاصطدام بقوات الامن والجيش، وإلحاق الضرر بالمؤسسات العامة بوصفها وكراً للفاسدين وممثلي الطبقة السياسية التي حكمت البلاد بعد “التغيير”؛ سيؤدي في نهاية المطاف الى نتائج وخيمة، ولن تلحق أدنى ضرر بهذه الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة، وحسب بل ستمد في عمرها وهيمنتها على مقاليد الأمور، لسبب بسيط يدركه حيتان تلك الجماعات والكتل جيداً؛ ألا وهو ان هذا السخط والتذمر والاستياء ما زال فاقداً للبوصلة والزعامات الحقيقية والمشروع الواضح، وهذا ما نضحت عنه صناديق الدورة الانتخابية الرابعة لمجلس النواب العراقي. نعم، هناك سخط وغضب واستياء، لكنها تفتقد غالباً لوضوح الفكرة والملاكات والتنظيم، وهذا ما يجب التوقف عنده طويلاً، لأنها الشروط التي تحسم مصير مثل تلك المواجهات والمنازلات في نهاية المطاف. لم يعد أمر فساد وفشل من تلقف مقاليد أمور ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية؛ سراً لا على المتابع المستقل وحسب، بل هو أمر لا يتردد عن التصريح به ممثلي هذه الطبقة وحيتانها، وقد أصبح تكرار ذلك مثيرا للملل ودليلا على العجز واليأس، لأن التحدي يكمن في مكان وشأن آخر، ليس من مصلحة القوى والكتل والمصالح المتنفذة الالتفات اليه وتفعيله. يكمن في قدرتنا الفعلية كعراقيين من دون تمييز، على التغيير الفعلي وصناعة المشروع والبدائل الحضارية التي تنتشل مشحوفنا المشترك من محنته الراهنة. ان المتابع لتظاهرات البصرة واحتجاجات بقية المدن العراقية وعلى رأسها بغداد وطقوس جمعة ساحة التحرير، وغير ذلك من النشاطات التي انتقلت الينا من “ربيع العرب” لن يجد صعوبة في اكتشاف ذلك الخلل البنيوي و”كعب أخيل” تلك النشاطات التي تتلقف خراجها القوافل الأشد مكرا وتنظيما ومراسا وعدة، وهم معروفون لكل ذي عقل ودراية وضمير. ان الاستمرار بترديد عبارات التعاطف مع البصرة وأهلها، بوصفها مدينة منكوبة ومظلومة ومنهوبة وغير ذلك من حفريات واكتشافات ومزاودات انخرطت فيها غالبية القوى والجماعات المتنفذة، الرسمية منها والشعبية، لن تقدم للبصريين أي عون جدي في انتشال محافظتهم مما آلت اليه من فشل وتفشي هائل لشبكات وعصابات الإجرام والتخلف والفساد، كما ان مشهد طوابير الشاحنات الحاملة لعبوات الماء الصالح للشرب وغير ذلك من المزاودات البائسة؛ يشير بوضوح الى ما تضمره تلك القوى من سيناريوهات واستثمارات وأجندات مقبلة. البصرة والعراق كله بحاجة الى تحولات وإصلاحات في جميع حقول الحياة المادية والقيمية، وهي لن تتحقق من دون نجاحنا في ضمان الأمن والاستقرار بعيدا عن لعنة الحروب ووباء عسكرة الدولة والمجتمع ونهش بعضنا للبعض الآخر، والبصرة تعرف جيدا معنى السلاح المنفلت والميليشيات والقبائل المدججة بكل أنواع الاسلحة، والذرائع التي تدعوها للانقضاض لحظة وقوع الفاس بالراس..!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة