خليل عبد العزيز يبوح في المخفي.. ولكن !

في محطات من حياته
جمال العتّابي

تكمن الأجوبة الصامتة لأسئلة ظلت ترافقنا طيلة عقود من الزمن ، هل هوالحزن للنتائج ؟ أم اننا ما زلنا أسرى للتجربة التي تجاوزها الحاضر ؟ هذا ما أراد خليل عبد العزيز الخوض فيه ، وهو يسجل تجربته السياسية والمهنية في كتابه الصادر مؤخراً عن دار سطور البغدادية (سجون , إغتراب ، نضال .. محطات من حياتي ) ، التجربة التي تجاوز فيها الماضي بإنكساراته وآماله ، والمفعم بتداعياته ، فألّف في فصوله ، ليصبح مقروءاً، وجعلنا أقدر على متابعة أحداثه ، بسبب من صلته الوثيقة بها ، ولأنه جزء منها ، وقدّم في الوقت ذاته تجربته الغنية بالمفاجآت والأسرار ، حتى إستطاع أن يعيد تأليف المخفي أو المستور من تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي والأحزاب الشيوعية العربية، يستحث الرغبة في التأمل والمراجعة في المادة المهجورة والحاضرة معاً .
فمنذ تمكن من الإفلات من حبل المشنقة بتهمة التصدي لحركة الشواف عام 1959 في الموصل، وهروبه للأتحاد السوفيتي، ما إنفك خليل أن ينفصل عن تاريخه الذي يؤلف فصول حياته ، ثابتاً على مبادئه ومنهج تفكيره ، يحمل هويته الوطنية والنضالية منذ أواسط خمسينيات القرن المنصرم ، إذ بدأ يتشكل وعيه السياسي ، والملامح الأولى لنشاطه المهني ، وشارك في إنتفاضة تشرين 52 ، وترأس إتحاد الطلبة العام في الموصل ، ومثّل الطلبة في لجنة الجبهة الوطنية التي خاضت إنتخابات عام 54 البرلمانية ، حُكم عليه بالسجن لمدة عام واحد إثر إنتفاضة 56 ، وكان من بين المبعدين إلى بدرة . عاد مسؤولا لإتحاد الطلبة بعد تموز58، أكمل دراسته العليا في الإتحاد السوفيتي ، ونال درجة الدكتوراه في الإعلام عن بحثه في قانون الصحافة المصري ، وعمل باحثاً في معهد الإستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية .
يقول الدكتور كاظم حبيب في كلمته التي تصدرت الكتاب ، انه شهادة حية وصادقة عن الأحداث ، وتمكن خليل من وضع اصبعه على الجرح الكبير .ومن الإنصاف القول أن حبيب قدم بإيجاز خلاصة وافية للكتاب ، وتمكن من تناول أكثر المشكلات حساسية ، وتوقف عند أبرز العوامل التي كانت وراء إنهيار تجربة السوفييت ، يأتي في مقدمتها غياب الديمقراطية ، ومصادرة الحريات ، وعدم ممارسة النقد والنقد الذاتي بوعي ومسؤولية .
كما قدم الكاتب فرات المحسن جهداً طيباً ورائعاً في الإعداد والحوارات ، وربما يعود له الفضل في تحريك ذاكرة المؤلف ، وفتح صندوق الأسرار في عقله ، فشارك مشاركة فعلية في إنجاز هذا الأثر من تراكم الخبرات ، بإعتباره مشروعاً سياسياً مفتوحاً للغد .
لعل خصوصية هذا ( الأثر ) تكمن في جدارة المؤلف بتسجيل الأحداث التي عاشها بحرارة ، هو في وسط المعترك وفي خضمّه ، منتسباً إليه ، دون أن يحصر همّه في الخضوع لسلطة الأيديولوجيا ، وصرامة التنظيم الحزبي التقليدي ، يمتلك عقلاً منظماً وحريصا ً ، بدليل إحتفاظه بدفتر خدمته العسكرية لحد الآن ، لأنه يثبت فصله عن الدراسة بسبب إنتمائه للحزب الشيوعي العراقي ، كما مدوّن في صفحات الدفتر .
إن قراءة متأنية للدلالات التي تضمنها الكتاب ، ستفضي بنا إلى إدراك معنى الفعل النضالي والسياسي عند خليل ، إذ يبدو متطابقاً مع
أفكاره المرسومة بدقة على سنوات التجربة ، منذ أن تمرد على القرار الحزبي الذي تبلغ به من قبل الشهيد سلام عادل مباشرة حين كان في موسكو ، والذي يلزم خليل بمواصلة الدراسة الحزبية في معهد طشقند الفلاحي ، فامتلك حريته في الإختيار ، خارجاً عن الطاعة الحزبية ، ليواصل دراسته العليا بإصرار وتحدٍ .
تحول خليل إلى شخصية فاعلة ومؤثرة طيلة سنوات عمله في معهد الإستشراق ، ومن خلاله تهيأت له فرص ذهبية في دخول الكواليس السياسية العالمية والعربية ، لم تكن تتوفرلغيره في ذلك الوقت ، كما يعبر عنها الكاتب ، إذ توطدت علاقاته بالشخصيات الحزبية والدبلوماسية من مختلف بلدان العالم ، وسافر وإلتقى الكثير من رؤساء وملوك ورجال سياسة وحكام عرب وغيرهم ، والإطلاع على مكنونات سياسية ودبلوماسية واسعة ، التقى الرئيس عبد الناصر ونائبه علي صبري ، واثناء وجوده في القاهرة في مرحلة إعداد البحث ، إلتقى محمد حسنين هيكل ، ورفعت السيد ولطفي الخولي ، وكان ضيفاً على الحكومة المصرية طيلة وجوده في مصر ، وهناك تعرّف على بريماكوف مراسل جريدة البرافدا في القاهرة .كما إلتقى كبار القادة اليمنيين : سالم ربيع علي ، علي ناصر محمد ، أثناء إحتدام الصراع على السلطة في اليمن ، وإختاره عبد الفتاح إسماعيل مستشاراً خاصاً له لإشهر عدّة ، كما إلتقى الحسين ملك الأردن ، والرئيس الصومالي سياد بري ، وزار أثيوبيا في فترة حكم منغستومريام . وشارك في فعاليات وأبحاث المعهد ، ومنحته التجربة معرفة غنية في مجالات العمل المختلفة .
محطات عبد العزيز تحمل أكثر من إشارة لعمق الصراعات السياسية بين مجاميع ومؤسسات الدولة السوفيتية والحزب ، الا ان تلك الخلافات كانت تختفي تحت سقف الاجتماعات الحزبية ، كما قدّم المؤلف أدلّة عديدة على مظاهر فساد كبيرة كانت تنخر جسد الدولة بعمق ، واختلف مع نهج بعض القادة الذين تبنوا مفهوم التطور اللارأسمالي كطريق للوصول الى الإشتراكية إعتماداً على أحزاب حاكمة في بلدان العالم الثالث ، وبسبب موقفه غير الإيجابي من هذا المفهوم ، واجه متاعب عديدة في تصديه لهذا النهج .سيما مع بعض القادة كـ (بونوماريوف وبريماكوف ) والأخيرالذي سعى دائما للايقاع بخليل وإقصائه.

صدمات أولى
ان أقدرالافكار على الإزدهار في تاريخ البشرية هي تلك الأفكار التي تخدم الانسانية ، هكذا تعلّم وفهم خليل النظريات والايديولوجيا ، في حدود تجربته الاولى ، لم يكن عارفاً انه سيواجه سلوكاً خارج أحلامه و( مقدساته ) ، إلا ان علامات الاستفهام الحائرة بدأت بسيطة وإزدادت تعقيداً ، منذ أن طلب منه موظف السفارة الروسية في فيينا ان يتبضع بعض الحاجيات ليبيعها في موسكو ويستفيد من فرق العُملة ، أو الآخر المرافق له الذي زوّر الفاتورة ليكسب مبلغا اضافيا من دائرته ، وأثناء تحضيرات الدراسة في مصريكتشف ان بريماكوف مراسل البرافدا كان يلطش تقارير الصحافة المصرية وينسبها لنفسه ، وان الزمالات الدراسية كانت تتم من خلال رشى تقدم لهذا المسؤول او ذاك .
وسلط الكاتب الضوء على ( مهزلة ) منح فاضل البراك شهادة الدكتوراه بفترة قياسة لم تتوفر لأي طالب سواه ، بسبب العلاقات ( الطيبة ) بين الحكومتين ، علما ان خليل قدم وثيقة تثبت دور الياس فرح في كتابة فصول الدراسة عن حركة رشيد عالي الكيلاني ، لان البراك كان منصرفاً لشراء سيارة وشقة للسيدة ( لودميلا) دون ان يعرف انها كانت مجندة لصالح المخابرات السوفيتية .

الفارابي المفتاح السحري
لزيارة الوطن
تمكن معهد الإستشراق من إقناع صالح مهدي عماش السفير العراقي في موسكو في إقامة مهرجان الفيلسوف الفارابي في بغداد وألما آتا عاصمة كازخستان في آن واحد ، وكلف خليل بوضع الترتيبات لتنفيذ الفعالية ، ومرافقته الى بغداد ، كيف يتسنى له ذلك ؟ وشبح أحكام الإعدام مازالت تلاحقه ، وأصر الجانب السوفيتي على أن يترأس الدكتورخليل الوفد الذاهب إلى بغداد ، فتدخل عماش لدى البكر في إلغاء أحكام الإعدام الصادرة بحقه مع بقية رفاقه ، وكانت المفاجأة أن يصل خليل الوطن ويلتقي رئيس الجمهورية البكر، وطارق عزيز ، ويتعرض الى محاولة إغتيال اثناء سفره الى كردستان مع عائلته .
يسعى خليل عبد العزيز لتقديم الحلول لمعضلات واجهت حركتي اليسارو(التحرر الوطني )، بل ويثيرها أمام القارىء ليفتح له باب الحوار معها ، فالمحطات التي توقف عندها لم تكن رموزاً وألغازاً ، انه يؤلف لغته الواضحة من نسيج الاحداث ، لهذا يبدو في أغلب المحطات التي توقف عندها جريئاً في صراحته ، مما جلب له المتاعب والاتهامات والشكوك وعدم الرضا ، سيما في المحاور التي كشف فيها عاهات الاحزاب الشيوعية العربية وتبعيتها لسلطة ( الأب ) الصنم ، في تنفيذ غاياته التصفوية ، وإعتباره مرشداً ومعلماً لاغنى عنه . ولعل هذا ما يواجهه أي متصدٍ للكتابة عن التحجر والإنغلاق .
هل يمكن لنا أن نضع إشتراطاتنا وحسب قناعاتنا للإرتقاء بمستوى التوثيق ؟ فما زلنا نعتقد ان في ذاكرة خليل عبد العزيز اليقظة طاقة مختزنة ، تحاول ان تخترق السكون .فهي مؤهلة للتعبير عن ظروف المرحلة التاريخية التي عاصرها ، وان كشف المستور منها سيقودنا حتما الى فهم الأهمية التي ينطوي عليها دور هذا الشاهد الحي ، فهناك قضايا اخرى كثيرة تستحق التسجيل بموضوعية وحيادية .
بمقدور الكاتب ان يتجاوز التكرار في سرد الأحداث , وإختصار بعضها ، وإعتماد المنهجية في إيقاع منظم ومتوازن ، لإحتواء هذا الفيض من القضايا في محاولات لاحقة ننتظرها ، ومراعاة الجانب الجمالي في تصميم الغلاف الذي لم يكن موفقاً في التعبير أو الإيحاء لمضمون الكتاب للأسف الشديد ، كذلك تصميم الصفحات الداخلية للكتاب المرتبكة هي الاخرى . واذا كانت هناك ثمة ملاحظة أخيرة نقولها ، هي تلك التي تتعلق بالعنوان ، بإعتقادي انه العنصر الاول الذي يهيء الحوار الداخلي الخفي بين المتلقي والكاتب ، انه الإنشاء البليغ الاول الذي لم يتحقق في عنوان تقليدي إختاره الكاتب دون عناية ، ومحطاته التي تكررت ربما لدى كتاب آخرين

* كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة