هي نوع من الكتل اهدتنا اياها العملية السياسية لعراق ما بعد “التغيير”. هي خلطة عجيبة لم يعرفها القاموس السياسي لعالم ما بعد الثورة الفرنسية الكبرى، سبيكة معقدة جمعت وشائج الشتيتين والمعسكرين المتضادين (المعارضة والموالاة) لتشكل ما يشبه الصدمة للراسخين بعلوم السياسة وورش ابتكار اشكال النشاط السياسي وادواته التنظيمية. كتل “الموارضة” هذه ادهشت المراقبين للمشهد العراقي، بما تميزت به من مرونة وديناميكية لا مثيل لها في فقه الدقلات، فتجدها لا تفرط بما تكرمها به عمليات اعادة تقسيم اسلاب الدولة بعد كل دورة انتخابية، وفقاً لمعيار النقاط المعمول به بوصفه من الثوابت الجليلة لحقبة الفتح الديمقراطي المبين، والتي لا تنحصر بالحقائب الوزارية والمفاصل الحيوية للادارة الجديدة وحسب بل تشمل ببركاتها ما يعرف بالهيئات “المستقلة” وآلاف من الدرجات الخاصة في الميادين المدنية والعسكرية. وفيما تشدد قبضتها على حقوقها المكتسبة “ديمقراطياً” لا تفرط بما تملكه الضفة الاخرى (المعارضة) من مميزات وعناوين وذرائع للتملص من عواقب (الثواب والعقاب) المرافقة للعبة الديمقراطية والصناديق. لذلك نجدهم وبالرغم مما يبدو بينهم من خلافات مستعصية وثارات من عصور ما قبل الدولة، يعتصمون جميعاً بهوية واحدة ورسالة مشتركة تجعلهم جميعاً تحت خيمة كتل “الموارضة”. هذا المسخ المستند على اساس وطيد من حطام الرسائل الخالدة.
ان عجز هذه الجماعات والمصالح والعقائد والقوى في الخروج من مستنقع “الموارضة”؛ لا يتعلق بمشيئة ورغبات هذه الكتل ولا زعاماتها (حيتانها)، وقد برهنت السنوات الـ 16 المنصرمة لتقاسمهم أسلاب النظام المباد، عن ان الامر يعود لعوامل موضوعية ولا سيما منها الاقتصادية؛ أي اسلوب انتاج الخيرات المادية واقنية تراكم الثروة وتوزيعها، حيث تستمد هذه الكتل حيويتها وديمومتها من تغول سلطة الاقتصاد الطفيلي (الريعي)، والذي لا يتيح لهم غير هذه الصيغة من أشكال العمل السياسي، والتي تشكل الاساس لظهور الدول الفاشلة. لذلك لم تفضي محاولات البعض من هذه الكتل للعب دور المعارضة (داخل البرلمان وخارجه)؛ لأكثر من اثارة المزيد من الشفقة على هذا المشهد الراكد والبائس للعملية السياسية الراهنة، المستندة الى احتياطي هائل من موروثات الفرهدة وغنائم الرزق الريعي.
آخر ما نحتاجه هو المزيد من الاوهام حول قدرة المشهد الحالي على؛ انتاج وامتلاك مستلزمات اللعبة السياسية وشرطيها التقليديين (الموالاة و المعارضة)، فالكتل و”الاحزاب” المهيمنة على التضاريس الممتدة من (الفاو لزاخو)، تعد الصيغة التي اشرنا اليها مثالية ومتناغمة تماماً وحاجات اقطاعياتها السياسية والاسرية المتعاظمة، لذا لن تفرط بهبة الأقدار هذه، من دون ولادة حاجة فعلية (وطنية وحضارية) للعب دور المعارضة أو الموالاة، كما تقتضي اللعبة الديمقراطية التي عرفتها المجتمعات الراشدة، وهذا ما لم نصل اليه برفقة هذا الكم الهائل من الكيانات و”الاحزاب” التي اجازتها المفوضية المستقلة للانتخابات (أكثر من 200 كيان) لأجل ديمومة هذه النعمة “الديمقراطية” والتي انتفت فيها الحاجة الى المرور بمحطات التداول السلمي للسلطة، بعد أن بسطت “كتل الموارضة” هيمنتها على الصوبين (الموالاة والمعارضة) لنجد أنفسنا في نهاية نفق نوع من “الديمقراطية” لا أثر فيها لمنظومة (الثواب والعقاب) والتي تقف مع كل دورة انتخابية؛ حائرة وعاجزة عن اداء وظائفها…
جمال جصاني