محمود الرحبي
«إن الأشياء في الخارج أعيان، وفي الذهن صور»، محمد بن علي التهانوي.
مستمتعان بالشمس، البذخ الإلاهي الذي يصعب احتكاره، أنا وأخي مستمتعان بالشمس، وبالظل الذي حفظناه، وبالهواء الحر وبالكلام .. أنا وأخي.
أخي يعمل مصورا في قسم التصوير بالجامعة. عليه أن يجمع صوراً كثيرة قبل أن نعود إلى البيت. الكاميرا في يده. وعيناه تنظران إلى كل شيء، وعيناي تراقبان عينيه في هذه اللحظة من الشمس.
وحين وصلنا إلى البحر، طلب مني أن أصمت. بدأ ينصب شبكته التي ستجمد الأشياء وتحبسها في إطار الصورة.
-لا تتكلم . قال لي هامساً. سيأتي الغروب بعد قليل ولابد أن يجر معه بعض الطرائد.
الشمس كانت أقرب مما يجب، هكذا تفعل قبل أن تنسحب، تصب جام نورها مقتربة من رؤوسنا ثم تزحف رويدا إلى البحر وتغوص وهي تكبر وتتحول إلى برتقالة.
-البرتقالة . قلت له هامساً.
-أرغب في طائر تحت البرتقالة. أجاب. علينا أن نصمت . لا تشتت تفكيري. الطيور ستمر بسرعة، لابد أن أكون مستعداً.
كانت إحدى عينيه على ثقب الكاميرا و أصبعه متوثبة للكبس على الزر حين عبر نورس عجوز ثقيل الخطى.
ضغط أخي على المكبس عدة مرات، وكأنه يصطاد شيئا من السماء بخرطوشة صيد. كرر الضغط وقام من مكانه وهو يتبع مسار الطائر.
-لكي تحصل على صورة واحدة جيدة عليك أن تصور مئة صورة . بعد المئة وواحد يمكنك أن تختار.
-هل ستشارك هذا العام أيضا.
-سأظل أشارك كل عام حتى أفوز. لا بد أن صورة ما غريبة ستجد طريقها. ولكن الصور الغريبة لا تأتي بسهولة، ربما هي الأولى بعد الألف. صورة واحدة فقط هو ما أبحث عنه.
في غرفتينا كانت قناني الماء الفارغة تتوزع في كل مكان. أكثر من ثلاثين قنينة فارغة تسبح في الأرض.
-إقذف بها للأعلى وأنا أصور . قال أخي.
بدأت بالقذف، فكان يصوب آلته كمن يحاول اصطيادها في الهواء.
-عليك أن تقذف بها جميعا للأعلى . يجب أن أصور جميع هذه القناني الفارغة حتى أظفر بواحدة تصلح لأن تبقى.
– سأجلس كي لا ترتطم بالسقف.
-إفتح فمك وأنت تقذف بها.
-أفتح فمي؟
-يجب أن يتلاقى فمك بفم القنينة وهي تسبح في الهواء. ستكون صورة في غاية الابتكار.
– وكيف أفعل ذلك .
– ستساعدنا الصدفة . ما عليك سوى رمي كل قنينة للأعلى وفمك مفتوح، وأنا سأنقض عليها.
كان أخي يرقص أمامي بكامرته متحفزا ونصف وجهه مغطى بجسد آلته. يقرفص ويقفز واقفا يتقدم ويتراجع، وأنا أقذف القناني في الهواء وفمي مفتوح.
-إفتح فمك عن آخره. عن آخره.
ظل أخي يزعق من خلف آلته الصماء التي كانت ترسل رصاصاتها الضوئية بحماس.
ولكن فجأة سمعني وأنا أخرج صراخا غير مفهوم من فمي. أزاح كامرته عن وجهه ونظر إلي متعجباً.
أشرت له بدوري بأن فمي يرفض أن ينغلق. لقد انحرف شيء ما عن مساره في عظام فكي. كنت أطلق الصراخ في وجهه دون معنى . وحين تيقن من جدية قسمات وجهي وبأنني لم أكن أمزح شرع يصور بحماس أشد. قفزت ناحيته وأنا أركله ولكنه تراجع إلى زاوية الغرفة سريعا وانقض علي برشقات متتابعة من كامرته.
-ألم أقل لك أن الصدفة ستساعدنا.
هددته بفتح باب الغرفة وأنا أصرخ بأعلى صوتي.
كنت في سيارته باتجاه مستشفى الجامعة، وقد أطلق إشارات الخطر. كان يصارع ضحكته أو فرحه. بدوري حين رأيت وجهي من المرآة العاكسة شعرت بابتسامة ترتسم على محياي دون أن تظهر، ثم أطلقت ضحكة مشوهة، فتشجع أخي للضحك. اكتشفت أن الفك الداخلي هو من يعطي معنى ليس للكلام فقط إنما كذلك للضحك. كان ضحكه واضحا، في حين بدا ضحكي خشنا أشبه بلهاث وحش. وعند الطوارئ حين سألنا العسكري عن مقصدنا، كان أخي يشير إليّ وهو يتصنع نبرة جادة. أرسل العسكري نظرتين حائرتين ناحية فمي المفتوح عن آخره.
هبطنا راكضين ناحية قسم الطوارئ وأنا أوزع وجهي ذو الثقب الواسع على كل من أراه أمامي. كانت الحالة غريبة بحيث بدت غير ذات أهمية لأحد.
لبس الطبيب قفازين وأدخل إبهاميه في فمي وضغط على فكي السفلي. وحين استوى الأمر خلع القفازين وقذف بهما إلى بطن سلة المهملات.
وفي طريق العودة دربت إبهامي على تقليد الطبيب. بدا الأمر سهلاً. وأخي قال:
– ستصبح مشهوراً!