مزاحم حسين
صدرت مؤخراً عن دار عدنان رواية «نيران» للروائي سعد قاسم الأسدي، والأسدي نال درجة الأستاذية في الرواية الأميركية، وهو أستاذ في كلية اللغات قسم اللغة الانجليزية ويعد احد أهم الأعمدة في الوسط الأكاديمي .
ان قراءة سريعة للرواية تكشف عن ان الأسدي لم يكتف بكونه منظراً وناقداً وأستاذاً أكاديمياً توقف عند حدود التقاليد الأكاديمية فحسب، وانما ولج عالم الابداع الروائي بعين كاميرا وبأدوات سردية متقنة واستطاع أن يضع بصمة في السرد العراقي المعاصر ويحتل موقعه كروائي في خارطة السرد العراقية.
ألقت الرواية الضوء على جانب مهم من تاريخ العراق الحديث وعلى ميكانيزمات المجتمع العراقي وتقلباته في ظل الظروف اللاعقلانية التي عاشها العراق في تاريخه القريب. لقد كشفت الرواية عن ابداع روائي عال وتمكن من أدوات السرد من دون أن يقع الروائي في السرد الفج أو يترك فجوات في بنائه السردي، فالرواية تكاد تكون قطعة من الزمن الحي التي خرجت منه والروائي لم يعمد للتعمية أو يغرق روايته بالأساليب المعقدة التي تجعل القاريء يبذل جهداً استثنائياً من أجل فك رموزها، وإنما استطاع بمهارة أن يعيد الصلة بين الباث والمتلقي، تلك الصلة التي انقطعت كثيراً؛ نتيجة لإغراق الكثير من الروائيين أعمالهم بالمدلولات الفلسفية والمتيافيزيقية والرمزية وتبني أساليب وتقنيات يقف أمامها القارىء عاجزاً ويرجع من رحلته في القراءة بخيبة وطرح مايقرأه جانباً.
برغم ان الرواية فيها لمحات قليلة من تيار الواقعية السحرية، إلا انها لاتنتمي الى هذا التيار كما أطلق عليها البعض وإنما تقترب من الشيئية الغرائبية التي دشنها الروائي الفرنسي آلان روب غريبيه في روايتيه «المماحي» و»جن»، ونظر لها في كتابه «نحو رواية جديدة»، فالرواية تصور جانباً واحداً من حياة الأستاذ وهو حياته الأكاديمية من دون أن تتطرق إلى جوانب حياته الأخرى، برغم أن هناك إشارات لطفولته ودراسته حين كان شاباً وذلك بفضل تقنية التلاعب بالزمن التي اعتمدها الروائي من دون أن تكون هناك فجوات في تسلسله السردي، فقد استطاع الروائي أن ينتقل بالزمن عبر طريقة proplesis و anaplesis بصورة سلِسة ووضع القارئ أمام محور آخر هو الرواية التاريخانية. ومع ان الروائي قد سجل جانباً مهماً من تاريخ العراق الحديث، لكنه لم يكن فقط داخل اللعبة الروائية بوصفه أحد شخوصها، وإنما كان خارجها أيضاً فهو بمنزلة الصانع الذي يصنع مادته ويقف أمامها من بعيد، فتصويره للبطلة (نيران) وغوصه في أعماقها يدل على ان الروائي له باع في التحليل النفسي برغم انه أحياناً يعتمد في تصوير مايعتمل في دواخل نيران الى التقنية التي اتبعها «كريستوفر مارلو» في مسرحية «دكتور فاوست» حين اجترح ملاكين: الطيب والشرير، وهذا تكنيك يظهر تارجح الشخصية بين الطيبة والإيغال في الشر. استطاع الروائي أن يبحر بعيداً في شخصية نيران النسوية ويكشف الجانب المخفي في شخصيتها، فالرواية لم تكتف بتصوير مالايقال بل مالا يترك بلا قول.
والروائي هنا لم يتعامل مع الموت كونه مضاداً للحياة ولم يتعامل معه بهاجس خشيته، ولكنه تعامل مع فكرة الموت انطلاقاً من الجانب الحيوي للعالم. وهو حاول أيضاً أن يقف بالزمن, لتسجيل هذه اللحظات الهاربة أو هذا الزمن المفقود, الذي لايمكن أن يستحضره الذهن إلا من خلال المقتربات التي يحاول أن يناور في انتقالاته السردية، محاولة منه إلى توصيل القرائن إلى البعد الحقيقي لتلك اللحظات الهاربة. كما حاول مارسيل بروست من قبل, أن يلتقط هذه اللحظات ويعيد خلق الشوارع والمنازل والحقول والوجوه والأصوات التي عرضها الماضي لتندمج في المستقبل. مثلما استطاع بمهارة أن يسجل واقعاً مؤلماً بلغة آسرة شفافة وأن يجعلنا نسوح معه رحلته وأن نبق مشدودين لأن ننهي قراءة الرواية وهذا لعمري لايتأتى الا لمن كان له باع في كيفية شد القارئ وإمتاعه، فالرواية وان تعددت طرق كتابتها تبقى هي الجنس الأكثر قابلية في تصوير ونقل حياة الانسان. انها رواية تعزز قيم الخير وتعطي درساً أخلاقياً قدم بصورة فنية رائعة بان الشر مهما تسيد فان قيم الخير هي من تنتصر في النهاية. وأخيراً إن ما أراد أن يقوله الروائي عن بطلته (نيران) هو انها عجزت عن مواجهة التزامات الحياة الفكرية، التي حسبت خطأً انها يجب أن تواجهها, فلم تستطع أن تتقبل نتائج معتقداتها الطبيعية. ولم تستطع ان تُسوِّف, فما من تحول هناك، ولانمو, إنما هناك حالتان – الفرح التلقائي واليأس الفكري، حب الأشجار والافتتان بالسيرورة الوحشية. والذي قاله عنها هو ان الانسان طفل فرضت عليه قوة الذات، أي حيوان آخذ بالصيرورة ملاكاً, لكنه إذْ يصير ملاكاً تزداد صيرورته وحشاً. لاسلامَ هناك ولا راحة، والموتُ نفسه إنْ هو إلاّ نوعٌ آخر من جنس مقرف.