لم تتشكل المنطقة الخضراء عبثاً، ولم تستقطب هذا النوع من المخلوقات والجماعات والمواهب المتعددة الوظائف والاشكال فجأة، بل هي نتاج شوط طويل من الخيبات والهزائم الحضارية والقيمية، رفدتنا بكل هذه الانواع من القوارض البشرية المتلهفة لقضم اكبر وادسم قطعة من وليمة اعادة تقاسم اسلاب الغنيمة الازلية والتي اضطرت لهجرها السلالات السابقة من جرذان العصر الزيتوني.
هذا العصر الأخضر انتج لنا وبسرعة خارقة مستويات من الشراهة والفساد فاقت تصورات أكثر العقول تشاؤماً وسوداوية، حيث بادر اعضاء مجلس الحكم بسن تشريعات ومخصصات لذواتهم المتورمة اثارت حيرة المسؤول الدولي عنهم السيد بريمر، والذي وصف وحدتهم الوطنية بالاجماع على التصويت للسقف الاعلى للمرتبات والمخصصات في مذكراته عن العام الذي قضاه مع تلك القبضة من الزعامات التي استوطنت المنطقة الخضراء واسست لكل هذا الحطام المتهاوي اليوم أمام غزوة الجيل الجديد من الجراد الاشد قضماً والمسكون بحلم استرداد الغنيمة الازلية.
ان الانتصارات التي حققتها قوى الهمجية والتخلف المنضوية اليوم تحت لواء داعش بمواجهة قوات الحكومة المركزية في بغداد ومن ثم انتقالها الى ما يطلق عليه بالمناطق المتنازع عليها والتي بسطت اربيل سيطرتها عليها بعد 10-6 وتوغلها من دون مقاومة تذكر من قبل قوات البيشمركة، يكشف عن حقيقة طالما تكررت في تجارب الشعوب والامم، الا وهي ان القوى والجماعات والزعامات المثقلة بالفساد والمصالح الفئوية والشخصية لا يمكن ان تتصدى لمهام الدفاع عن مصالح الوطن والناس وهي أول من يهرب من ساحات المواجهة، كونها مخلوقات لا تتضمن سيرهم الشخصية اي مواقف اخلاقية مشرفة. وما انهيار هذا الركام من المؤسسات التي اوجدوها بشكل عشوائي وتلفيقي الا دليل واضح على عجزهم وفشلهم التام في التصدي لمهام يعرف بالمرحلة الانتقالية والتي لا يمكن ان تتحقق مستلزماتها باعادة انتاج ذات القوى والممارسات والقيم التي عفا عليها زمن الحداثة والمواطنة والحقوق والحريات.
ان القوى والشخصيات التي تنطعت لمسؤوليات ما بعد الفتح الديمقراطي المبين ومن دون استثناء، قد برهنت لا عن عجزها وخوائها بمواجهة التحديات والمخاطر الجسيمة المحدقة بالتجربة الفتية فحسب بل هي تتحمل وزر غير القليل من الكوارث التي حلت باعداد كبيرة من سكان هذا الوطن المنكوب بغطرستهم ولا مسؤوليتهم تجاه ما حدث وما سيحدث لاحقاً. ان وجود المنطقة الخضراء وما يرافقها من منظومة قيم طفيلية وشرهة، يعني أمراً واحداً لا غير، الا وهو انتظار المزيد من الغزاة وقراصنة المنعطفات التاريخية الحالمين بغنائم وأجواء الفردوس المفقود..
جمال جصاني