نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 49

الفصل الثامن عشر
الاحتلال الاميركي2003 وأملي في إعمار العراق
دخول القوات الاميركية الى العراق ، مقترح الى البارونة «أيما نكلسن « , ظهور التطرف الطائفي ، التجمع الديمقراطي في لندن ، العودة الى بغداد ، إعمار وزارة التخطيط ، دعوة جامعة ميلانو ، هيئة الاتصالات والاعلام ، اللجنة العليا للمستوطنات البشرية، المنتدى العالمي في برشلونة ، دعوة السفير البريطاني ، الملحق الزراعي الاميركي والعراقيين ، البنك الدولي ، العمل مع الشركات الاميركية ، تجربة معسكرات الحبانية وحمام العليل ، العمل مع بارسون الاستشارية ، لقاء السيدة نداء في البحر الميت ، العودة الى النشاط الاستشاري – الموصل القديمة ، أخبار سارة , تغلب واتجاهاته ، مكاتب تخطيط المدن المستحدثة ، مشروع قانون التخطيط العمراني ، انتقال المكتب، هل اتوقف ، التوجه الى الاستشاريين الانجليز.

مشاهدة دخول القوات الاميركية الى العراق
كانت الأشهر التي قضيتها في لندن أوائل هذه السنة 2003، مضطربة وصعبة وطويلة ، حيث نسمع ونقرأ والعالم أجمع يتحدث حول تحشد القوات الاميركية في الكويت وقطر وتوالي الإنذارات الى صدام حسين . لعبت وسائل الإعلام دورا كبيرا في تهيئة الفكر العالمي لتقبل دخول أمريكا الى العراق متحدية العالم بذلك .
وان كنت أدعم فكرة التغيير بقرارة نفسي ، إلا اني لم أرغب بتدمير العراق الذي عملنا على بنائه لسنوات . كان صدام قد ركب رأسه وادخل العراق بمشاكل الحروب ، تارة مع ايران واخرى مع الكويت و يقول … لايزال لدينا « كونة اخرى « أي معركة اخرى . أدت تلك الحروب الى تخريب كبير في ما تحقق في عهد النهضة التي عمت العراق في العهد الملكي وحتى تسعينات القرن العشرين . تشرد بعدها العراقيون وهاجروا الى مختلف انحاء العالم . ومن المقاربات التي اذكرها في هذا الصدد ، لم يبق من اخوتي وأقاربي واصدقائنا في بغداد من جيلي وبعده إلا القليل جدا . عمت البطالة وتوقفت معظم المشاريع وارتبك الاقتصاد العراقي الى درجة الانهيار لولا واردات النفط . تردت الخدمات وازدادت نفوس العراق وتردت البيئة الى درجة مخيفة .
في 9 آذار 2003 بدأ قصف الطائرات الاميركية لمدينة بغداد كما بدأت قطعات الجيش الاميركي هجومها الأرضي على البصرة . لا أدري كيف أصف شعوري وأنا كأي عراقي ، عاش طيلة حياته وعمل وشيد الكثير في بغداد والعراق, أراهم يدمرون مابنيناه القوات الاميركية تدخل العراق بموازاة خط النفط الجنوبي في الصحراء ، اشاهد على تلفزيون ال (بي بي سي) ان ابنية بغداد وعلى طول الافق تحترق وتدمر نتيجة القصف الاميركي ؟ بغدادنا ، عراقنا ، أهالينا ، العراقيون جميعا ، الجيش العراقي . لا ندري … ندمت لتركي بغداد في الاجازة الصيفية ، وكم كنت أرغب أن أكون في بغداد في ظروف كهذه لنعيش اللحظات الصعبة سوية …. هذه نتائج طموحات السياسة ، والسياسة الشيطانية والسياسيين الجهلة ، الذين لا يقدمون الحقائق ولا البراهين ولكن يدبرون التهم ،لتدعمها وتؤكد عليها وسائل الاعلام كيما تصدق ….
البعض يصدق ويؤمن !!
بهذه المشاعر … وأخبار انهيار صدام حسين تنهال علينا عبر وسائل الاعلام العالمية جميعا ….. هذا ما صار .. بقينا نتابع الأخبار العالمية ونشاهد تقدم الجيش الاميركي على شاشات ال BBC ومسيرته شمالا دون اية مقاومة وكأنما الدبابات تتسابق في احتلال المدن والتي لم تعارض حتى وصول الجيش الاميركي الى مقتربات النجف ….. عندما وقف أهالي النجف في طريق الجيوش ، رافضين دخولهم الى المدينة … ويتضح بعد مفاوضات ومباحثات اقتنعت القيادة الاميركية أن الأهالي يرفضون دخول الأمريكان الى النجف باعتبارها مدينة دينية مقدسة . في نفس الوقت الذي تتقدم الجيوش الاميركية الى بغداد تتجه القوات والجيوش البريطانية باتجاه البصرة ….انقطعت في تلك الأيام جميع اتصالاتنا مع بغداد ولا ندري ماذا يحل بمصيرنا هناك وأي عراق سنواجه ؟؟
أسقط الشعب العراقي تمثال صدام في 9/4/2003 وبذلك اعتبرت جمهورية صدام قد انتهت،إلا أني شعرت شخصيا وكأنما دقت ساعة العمل …. وبدأت بالتخطيط ورسم طريق العودة الى بغداد.
يتساءل الكثير عن مفهومهم لصدام حسين كدكتاتور أو الرجل القوي وكيف كان ولماذا كان … أقول إن التأريخ سيحكم على كل انسان عن طريق أعماله وإنجازاته. لقد حقق صدام حسين وخلال فترة حكمة ، وهذا من واجبه ، العديد من الأعمال لتطوير العراق خلال حياته ومنها تأميم النفط واكمال بناء السدود لخزن المياه ومنهاج محو الامية … كما كانت لديه من القسوة والشدة في الكثير من الاحيان الاخرى وقام بأعمال لا تغتفر ، بالإضافة الى دخوله حروبا لا داعي لها كما أرى ، أدت الى تدمير العراق ، وهذه من الامور غير الاعتيادية في مفاهيم الكثير من الشعوب المتحضرة.

مقترح إعمار العراق الى البارونة «أيما نكلسن»
وأنا في لندن في نيسان 2003 ، طلب مني هاتفياً صديقي المحامي خالد عيسى طه ، المعارض المقيم في لندن وبتكليف من النائبة البريطانية « إيما نكلسن» كما ادعى ، أن أكتب له آرائي حول إعادة إعمار العراق خلال الفترة القريبة من الزمن . تفرغت خلال فترة ثلاثة أيام على بلورة أفكاري وأرسلت الى خالد مقترحاتي التي اعتمدت فيها على التركيز على الاكثار من انتاج
النفط لزيادة الواردات ولإعمار العراق ومساعدة الطبقات
من ذوي الدخل القليل من المتقاعدين والمعدمين والتوسع في المشاريع لتوفير أكثر فرص عمل ممكنة للطبقة العاملة ومن ثم التخطيط لوضع مناهج إعادة إعمار العراق لبناء عراق جديد بكل طاقاته وإمكاناته ليأخذ موقعه الصحيح بين دول العالم المتقدم . لم يخبرني خالد عيسى طه عما حل بمقترحاتي ولكني عند وصولي الى بغداد سلمت نسخة منها الى السفير البريطاني في بغداد في 20 حزيران 2003 .
لقد عملتُ لصالح دوائر الدولة أو كمهندس استشاري في مكتبي طيلة حياتي العملية و كنت أعمل وافكر في تطوير الجهات القطاعية مثل تطوير مدينة بغداد أو تطوير القطاع الزراعي أو قطاع السكن ، إلا أنني بعد دخول الأمريكان الى بغداد في 2003 ، وطموحا مني في أن يبرز العراق بعد تحريره من قبل الحكم الدكتاتوري وعلى غرار ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية بمساعدة مشروع مارشال الاميركي ، كنت أطمح في أن يتطور العراق على ذلك النمط وأن نخطو الى التطور في الشرق الأوسط على غرار ما حدث في كوريا الجنوبية … وبدأت في التفكير بوضع الاستراتيجيات الرئيسية لإعمار وتطوير العراق على جميع نشاطاته الاقتصادية… هكذا كانت طموحاتي وآمالي ..
إلا اني اكتشفت ومع كل أسف بعدئذ أن لا طموح للأمريكان يرقى الى ما أنا أصبو الية من تطور وإعمار، فقد وأبقوا الدمار كما هو عليه في كل قطاعات الاقتصاد العراقي وبناه التحتية وركزوا على الجانب الأمني فقط .
لم أكن وحدي في لندن من يفكر باتجاه العودة ولكن شاركني الكثير من أولادنا والمعارف العراقيون والاصدقاء في هدف العودة لبناء العراق الجديد. ولذا بدأت العمل بجد لأنهاء مهام وجودي في لندن والعودة الى بغداد للمساهمة مع الآخرين في عمليات الاعمار المطلوبة
على الشاشة في لندن : ظهور التطرف الطائفي في نيسان 2003
نقلت الأخبار لعالمية من العراق صورا لاحتفالات زياره عاشوراء الى كربلاء في تلك السنة ، وإذا بها أشبه بالاحتفالات العسكرية المنظمة والمبرمجة ، وهي الميلشيات شبه العسكرية التي دخلت العراق بعد تغيير النظام ، كما صادف في تلك الفترة ، أي بعد أيام قليلة من تغيير النظام أن اعلن الحاكم المدني « بريمر» عن نيته في الغاء البطاقة التموينية.
شعرت وكأن الامور تسير بشكل غير متوقع من قبلنا ونحن المحايدون المعزولون الذين لا ارتباط سياسي لدينا مع أي كتلة أو حزب عن كتل المعارضة . ارتأيت مع نفسي بأن بعض الكتل السياسية بدأت تدخل العراق كمليشيات أو جيوش صغيرة وهذا ما يؤزم الموقف الطائفي ويزيد الامور تعقيدا . إضافة الى صعوبة معيشة شرائح واسعة من العراقيين دون دعم الدولة لهم عن طريق» البطاقة التموينية « نتيجة قساوة الحصار ، ولذا قررت أن أعبر عن رأيي هذا الى صديقي السفير البريطاني السابق في العراق والمتقاعد حاليا في لندن « السير تيرنس كلارك» ، لعله يبلغ وزارة الخارجية البريطانية والمسؤولين البريطانيين بخطورة الموضوعين ومن الصحيح تدارك الأمر قبل فوات الأوان.
كلمته هاتفيا ونقلت له رأيي ورجوته ابلاغ المعنيين في وزارة الخارجية البريطانية بملاحظتي وتدارس الموضوعين وتدارك الأمر ان امكن . خابرني في اليوم التالي وطلب مني أن أحضر مع اثنين من اصدقائي لزيارة المسؤول المباشر عن العراق في وزارة الخارجية البريطانية. وبدون تردد حضرنا في الموعد المحدد أنا وكل من صديقي المقرب الأخ فاروق عريم وصديقي جميل أبو طبيخ الساكنين اصلا في لندن منذ فترة طويلة .
وبحضور «السير تيرنس كلارك « مع مسئوول الشرق الاوسط في وزارة الخارجية البريطانية ، ناقشنا الموضوعين على مدى نحو45 دقيقة وبينا ملاحظتنا حول ( الجانب العسكري في الاحتفالات ) مع الأهمية القصوى لإبقاء البطاقات التموينية حاليا وعدم الغائها ، لحاجة طبقة معدمة كبيرة في العراق الى البطاقة التموينية وما تقدمه من مساعدات مجانية للمحتاجين . انتهت زيارتنا وتم استقبالنا في حفل كوكتيل صغير للتعرف على بعض الشخصيات المعنية بإدارة شؤون العراق في وزارة الخارجية البريطانية .

التجمع الديمقراطي في لندن 2003 والتعرف على عدنان الباججي
ونحن في غمرة اخبار العراق والتغيرات المتوقعة في بغداد دأبنا على اللقاءات بيننا لتبادل الآراء والافكار والمعلومات حول مستقبليات الحكم في بغداد كنت قد قررت العودة الى بغداد بأسرع وقت ممكن. التقيت صديقي الدكتور سعد شاكر وحدثني عن تكوين التجمع الديمقراطي وأهدافه ، ذلك التجمع الذي تكون حديثا ، وذكر لي اسماء العاملين على تكوين هذا التجمع الذي تم تكوينه من قبل بعض الشخصيات العراقية المعروفة بثقافتها وخبرتها السياسية ونهجها المحايد في السياسة العالمية وانتمائها العراقي.
هذه النخبة المتميزة اختارت لرئاستها ، السياسي القدير د. عدنان الباجه جي . أيدت الفكرة ومفاهيمها وأهداف هذا التجمع وبينت تأييدي للتجمع الديمقراطي . أعطاني د. سعد رقم د. عدنان في أبوظبي وخابرت الدكتور عدنان وهو في بيته في أبو ظبي ، مبينا تأييدي لتجمعهم وأهدافهم ، ورحب رئيس التجمع بذلك كثيرا آملين
ان نلتقي قريبا في بغداد .
بعد عودتي الى بغداد وفي زيارتي لمقر التجمع الواقع قريبا من داري في المنصور التقيت بالشخص الثاني مع د. عدنان وهو الدكتور مهدي الحافظ وتعرفت عليه ووجدته صديقا للعديد من اصدقائي الديمقراطيين و من المفكرين ذوي الخبرة السياسية الطويلة ومن المعتدلين والمنطقيين وممن يؤمن بإعمار وممن يؤمن بإعمارالعراق, كونه من الاقتصاديين والسياسيين
المحنكين ذوي خبرة سابقة في السياسة العراقية والعالمية .توسع كيان التجمع الديمقراطي في
بغداد بعد تثبيت موقعه الجديد وبدأت اللقاءات والتجمعات وتعرفت على العديد من قيادات التجمع واشتركت في العديد من المحاضرات . اتضح لي د.مهدي الحافظ بانه الشخصية العالمية ذات الخبرة الواسعة وانه وراء تكوين التجمع
الديمقراطي وهو محور تكوين نواته واختيار د.عدنان لرئاسة التجمع , كما انه المحرر لافتتاحيات جريدة التجمع «النهضة» والموجه الرئيس لسياساته . كما ان مهدي الحافظ كان
وراء ترشيح وتعيين العديد من اعضاء التجمع
في المناصب الوزارية ومنهم عمر الدملوجي وزيرا للإسكان والشبلي وزيرا للعدل وليلى عبد اللطيف وزيرة للعمل والشؤون الاجتماعية وميسون الدملوجي كوكيله وزارة الثقافة .سألني د.عدنان الباجه جي في احد اللقاءات الخاصة عن رغبتي في المشاركة في احد المناصب الحكومية مع التجمع الديمقراطي , اجبت بأني لا اطمح في منصب وان تأييدي لهم هو ايمان بفكرة التجمع واهدافه , إلا اني حاضر لتسلم اي مسؤولية مهمة في حال حاجة التجمع لخدماتي.
لم يستمر التجمع الديمقراطي في الحياة السياسية للعراق لفترة طويلة وانفصل مهدي الحافظ عن عدنان الباجه جي عندما كتب مقالاً مهماً ضد التطرف الطائفي , بعد ان بدأ الاخير في الميل سياسياً الى الاتجاهات الطائفية ورغب في ترشيح نفسه لتمثيل الطائفة السنية في التكوينات السياسية .
العودة الى بغداد في حزيران 2003
وصلت الى عمان في 20 حزيران 2003 وفي الوقت الذي كنت أهيئ نفسي للسفر الى العراق ، اتصلت بأصدقائي في عمان ومنهم الدكتور حمدي التكمه جي للتعرف على أحوالهم ومفاهيمهم لما يحدث . أطلعني الدكتور حمدي على رسالة عجيبة وغريبة ، وهي صادرة من رئيس جهاز المخابرات في وقت صدام حسين ، يوجه فيها جميع عناصر المخابرات في جهازه لما عليهم ان يعملوه ومن التعليمات فيها ، بأن يتركوا مكاتبهم ويلتحقوا بالكتل الدينية وأن يحرقوا كل الوثائق وما لديهم من سجلات وتعليمات وتوجيهات .
أجرت سيارة ( GMC ) وعدت بها على الطريق البري بين عمان وبغداد . وبعد نحو350 كم أي بعد عبوري الحدود الاردنية ودخولي الحدود العراقية ، لم أجد أي ممثل للجمارك او السيطرة على الحدود ، سوى جنديين اميركيين واقفين على جانب أبنية السيطرة الحدودية ، توقفت سيارتي امامهما وحييتهما ، سألاني ان كنت عراقياً ام أجنبياً … قلت عراقي … أشر احدهما بالمرور مع كلمة توديع . دون اي ختم لجواز او اجراءات اخرى ، اي ان الحدود كانت مفتوحة لكل من يمر من هناك.
شاهدت وانا على الطريق الذي طوله زهاء 525 كم من الحدود الى بغداد ، الكثير من السيارات والباصات الخاصة المدمرة والدبابات والمعدات العسكرية المحروقة على جانبي الطريق نتيجة القصف الجوي من الطائرات الاميركية ، أما ضمن حدود بغداد فقد لاحظت الكثير من السيارات والدبابات والمدافع ضد الجو والمعدات العسكرية المحروقة والمدمرة نتيجة معارك محلية في بغداد .
وصلت الى داري في المنصور– بغداد والحمد لله كان كل شيء كما هو وحييت الحارس أبا أحمد وزوجته واولاده وبذا انتهت رحلتي الى بريطانيا التي طالت نحو ستة أشهر.
وبالفعل وكما طلب صدام من اعضاء الحزب أو المخابرات العراقية ، لاحظت بين فترة واخرى من تواجدي في بغداد بعض الاعمال الانتقامية ، ومنها مشاهدتي الحريق في مباني إذاعة و تلفزيون بغداد حيث أحرق العديد من التسجيلات المهمة .
كما حدثني شخصيا حارس الكنيسة الإنجليكانية مقابل فندق المنصور عن مشاهدته لسيارة ينزل منها على ما أعتقد انهم كويتيون بلباسهم الكويتي التقليدي (الدشاديش) من سياراتهم ودخولهم الى مبنى مؤسسة التلفزيون ورشهم لعلب البنزين وحرقهم المبنى الذي التهب دون وجود من يحرسه أو سيارات إطفاء الحريق. تحدث عن هذا الموضوع بعض الصحفيين ، إلا ان الخبر لم ينشر في الصحافة.
قمت بجولات عديدة في أنحاء بغداد لتسجيل آثار الدمار الواقع عليها ومنها الأبنية المختلفة وقمت بتصوير العديد من تلك الأبنية الواقعة في مركز المدينة للاحتفاظ بها كوثائق للمستقبل . يلاحظ من تجوالنا في بغداد أنه قد تم قصف معظم الأبنية العالية في مركز المدينة ، عدا أبنية وزارة النفط . من الأبنية الكبيرة التي قصفت بصواريخ هي بناية برج الاتصالات في شارع الرشيد التي صممها رفعت الجادرجي وبناية مواقف السيارات في الباب الشرقي التي صممها معماري يوناني . أما مجمع أبنية وزارة التخطيط المكون من سبعة أبنية التي صمم منها بنايتي الوزارة ومجلس التخطيط المعماري العالمي الايطالي «جيو بونتي» فقد تعرضت الى ضربات شديدة وحرق المكتبة الوطنية العامة.
في حالة اخرى كلفت احدى السيدات المصورات , لتسجيل ما حدث في كل من شارع الرشيد وشارع الخلفاء … كانت صور مؤلمة حقا ، إلا أنها ستبقى وثيقة للذاكرة في المستقبل . لا يمكن أن أنسى ذلك الشريط التلفزيوني الذي يعرض دخول الرعاع الى بناية احد البنوك في شارع الخلفاء ، ونهب ما فيه من أثاث ونقود عراقية ودولارات وخروجهم من البنك في فوضى عارمة بينما يقف الجندي الاميركي الحارس على تلك البناية في بابها وهو في حالة استراحة و «يعلج» أي يمضغ اللبان في فمه وغير مبال بما يحدث.
أما عن مزرعتي في منطقة سبع أبكار – الاعظمية ، فيتضح أنها قد اتخذت أثناء الحرب الاميركية العراقية كقاعدة لحفظ الصواريخ ، كما حدثني حول ذلك أبو حيدر مسؤول المزرعة ، فبالإضافة الى تواجد الضباط قرب الدار وأبو حيدر في المزرعة فقد تم تقديم التسهيلات لهم طيلة فترة الحرب , حيث قامت وحداتهم بوضع 12 صاروخاً ، من طراز أرض أرض طول الواحد منها نحو 10 أمتار، على طول المحيط الخارجي للمزرعة ، لا للتهيؤلإطلاقها ، بل لإبعادها عن الأعين الاميركية . بقى كل الموجودين بالمزرعة قلقين من هذا الوضع خشية تشخيص وجودها من قبل الطائرات الاميركية وقصفها وتفجير محتوياتها والمزرعة ودارنا الموجود فيها . بقيت الحالة على ما هي حتى إعلان دخول القطعات الاميركية الى بغداد وبذلك ترك الضباط العراقيون المسئوولون صواريخهم.
واختفوا عن الأنظار وبقيت الصواريخ ممددة في مواقعها الى أن قام أبو حيدر بإبلاغ المسئوول الاميركي في منطقتنا عن هذا الموضوع , حيث قاموا بنقلها بعدئذ تاركين في المزرعة بعض الزعانف الخاصة بالصواريخ والتي قد اعتبرها الامريكان من مواد السكراب. جمعت مخلفات الأسلحة المتروكة في المزرعة وما حولها من زعانف وسبطانات وبقايا عتاد مستعمل وكونت منها متحفا صغيرا أعرض ما فيه الى زوار المزرعة لتذكيرهم بالحرب العراقية الاميركية .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة