حساسية المتخيل الشعري في (راهب العنب)

الجزء الاول
عبد علي حسن

ينتمي المشروع الشعري للشاعرة نضال القاضي إلى فضاء الحساسية الشعرية لجيل التسعينات ، حيث نشرت أولى نصوصها في مجلة أسفار عام 1993، إذ ارتبطت تلك الحساسبة وعلى نحو واسع ومؤثر بالظهور الفاعل لقصيدة النثر العراقية وتسيدها المشهد الشعري العراقي ، وهو ما عكس وعيا متقدما من شعراء هذا الجيل بمؤثرات الوضع الاجتماعي العراقي وضرورة طرح نص يتمتع بحساسية شعرية جديدة قد تشكل قطيعة مع ما أنجزه شعراء العقود السابقة ولعل أقربها جيل الثمانينيات ، وعلة ذلك تتمثل بالواقع الاجتماعي المتغير الذي فرضته حرب الخليج الأولى والثانية ، إذ كان شعراء هذا الجيل على مقربة مما أفرزته تلك الحرب من فضائع استدعت حساسية شعرية جديدة تقوم على تغليب شعرية الواقع على شعرية اللغة التي اهتم بتركيباتها شعراء السبعينيات والثمانيات وكذلك الاهتمام ببلاغتها ، وهكذا كان لشعراء التسعينيات الفرصة لتقديم أنموذجهم الشعري من خلال بلاغة الواقع ، فشكلوا حساسيتهم الشعرية عبر الانتباه للواقع المنتهك والغرائبي فأقتربوا من تمثل الواقع بلاغيا مخلفين وراءهم سكونية وفوقية البلاغة التقليدية باتجاه تفعيل حركية الواقع المر واستبطان النص الشعري لتخليق الواقع الآخر / الجمالي لينفذ من براثن قبح الواقع ، ولئن شكل هذا المنحى حساسية في الرؤية فإنهم ظهروا بحساسية مفارقة باتجاه حساسية المتخيل الشعري لضخ اكبر قدر من الخيال لمواجهة ضغط الواقع وانتهاكاته ، وبهذا المعنى فإن (كانط) يعرف الحساسية في مجال المعرفة الفلسفية بأنها (القدرة على تلقي التصورات بالطريقة التي بها يتأثر الكائن الحي بالموضوعات العارضة ) استفادة من المفهوم العلمي للمصطلح إذ هو رد فعل غير طبيعي للجهاز المناعي في الجسم لمؤثر خارجي ، ويقترب القاص ادورد الخراط من مفهوم كانط فيقول في كتابه ( الحساسية الجديدة/ مقالات في الظاهرة القصصية-دار الآداب /بيروت 1993) بأنها( النقلة النوعية التي حققتها القصة العربية بتأثير من الواقع الاجتماعي ) مشيرا إلى أثر الواقع الاجتماعي ومعطياته في تشكل المختلف الجديد المتمتع بحساسية جديدة مفارقة لما سبق ، لذا فنحن ازاء عدد من الحساسيات تشكل اختلافا في تشكلات الرؤية الابداعية مثل حساسية اللغة / الاسلوب/الرؤية/ المتخيل ، وكل هذه الحساسيات تشكل مجتمعة حساسية جديدة لجيل جديد استجاب للواقع الاجتماعي لتحقيق تفرده وتجاوزه للحساسية الشعرية القديمة ، وهذا ماسنحاول تقصيه في الكتاب الشعري الجديد للشاعرة نضال القاضي (راهب العنب) الصادر عن مؤسسة الموجة الثقافية- المغرب / 2018 الذي تضمن الترجمة الفرنسية للنصوص بقلم الشاعرة المبدعة زكية المرموق ،وتحديدا فيما يخص حساسية المتخيل الشعري.
تعد ثنائية الواقعي/ المتخيل واحدة من الثنائيات الضدية التي يقوم عليها بناء النص ، ومفهوم أي منهما يتضاد مع المفهوم الآخر ، فإذا كان الواقعي في ابسط مفاهيمه هو ما يشكل سابق الوجود في الذهن أي ما هو قائم يستلزم الوعي به فإن المتخيل هو ما لم يشكل سابقا في الوجود الذهني أي ما هو ممكن ويستلزم الوعي به قدرة النص على اعادة تشكل ما هو قائم الى ما هو ممكن أي اعادة انتاج الواقعي وتدويره ليكون واقعا آخرا غير سابق الوجود ، وهنا يتم تكريس قوة المتخيل في تخليق الحساسية الشعرية التي تشكل صدمة تسفر عن رد فعل المتلقي في تمثل الواقع الآخر الذي خلقه النص ، والذي سيتمكن المتلقي من ادراكه والوصول اليه عبر استدعائه لمرجعاتيه الجمالية والمعرفية ، وتكاد نصوص (راهب العنب) ومن خلال تكريس الطاقة التخيلية في كتابة قصيدة النثر ، ان تحقق المعادلة الصعبة في القدرة على اظهار قوة الشعر في النص النثري عبر فعالية المتخيل التي تمنح النص أجنحة ليحلق في فضاء مغاير مؤكدا شعرية الفضاء النثري ، واذا ما أخذنا بنظر الاعتبار انثوية الكتابة الشعرية فإن هذه النصوص تشكل رؤية انثوية تبدت في اللغة والاسلوب والموضوع وحتى اختيار عنوانات النصوص ، مما جعلها _ النصوص _ تقترب من الشعر أكثر منه الى النثر بفعل قوة شفافية الرؤية الانثوية ومخيلتها في تأثيث النصوص التي انتقلت الى فضاء الشعر الحر- لا اعني شعر التفعيلة -، ففي المقطع الأول من نص (راهب العنب) محاولة للإمساك بفجائع نسوية عبر ترسيم تخيلي حاذق لوضع مأساوي ينم عن قدرة النص في الوصول الى طبقة بعيدة من وضع النساء الذي شكلته الطبقات الاركيلوجية للوجع :–
( جميلات
كمكلومات
نسوة خلف حائط
ك هلع —
ممسوك من ثدي
ك هن مغروسات في نار
كنوم غزير تلطخن بحلم …النص ص8)
فالنص الآنف الذكر يرسم مشهد تخيلي ممتد الدلالة ويشكل وعيا بالممكن الذي انفرد النص بتخليقه لمقاربة الواقع الانثوي للنساء ، وبمعنى آخر فإن ماقام به النص هو تقديم رؤية متخيلة خاصة به ، وقد مكنت هذه الرؤية النص من الانتقال من الواقعي / القائم الى المتخيل / الممكن الذي لم سبق وجوده في الواقع وبالتالي في ذاكرة المتلقي ، وإذا ما حاولنا تفكيك النص لاكتشاف البنى المكونة له فإننا سنكون ازاء معطيات اتسمت بالتخييل لتشكل الصور الشعرية الدالة والمولدة لجملة من الدلالات المستدعية لذائقة المتلقي ، فال (الهلع ) الممسوك من الثدي يعمق الإحساس بخوف ووضع النسوة المجروحات وهن في عزلتهن خلف الحائط ، وكذلك صورة هؤلاء النسوة وهن مغروسات في النار التي لامفك ولامفر من وجودهن وبقائهن فيها ، ولتقريب المشهد اكثر فإن النص يشبه هذا الوجودالنسوي كنوم عميق يستولي عليه حلم اولئك النسوة ، وفي المحصلة الدلالية التي انتجها المتخيل فنحن ازاء حساسية جديدة استخدمت اللغة الصادمة والمتوترة في تشييد المتخيل الشعري الذي هيمن هيمنة كاملة على فضاء النص حتى انه لم يفسح مجالا للنثر بالتسلل الى شبكة الاستهلاك والمرجع المألوف.
ولأستكمال دورة التوتر الشعري وغموضه فإن النص يختلق الآخر المخاطب ليوصل الجزء الأول الذي تحدثنا عنه آنفا بالجزء الأخير الذي يفترض علاقة مشابهة بين(الجميلات ) والمخاطب :–
( ك انت ..
محدقا في آذانهن
قدمك على يدك وتقفز
كي تنظر الى مايصغين
وتترجرج في السلال
عنبا نقيا طول الدرب
وكتفه معلولة . …..النص ص8)
ان تحول وظيفة النص من الانفعالية الى الافهامية/ الخطابية قد أحدث توترا يستلزم ايجاد العلاقة بين (الجميلات) و (انت) ومحاولة خلق موازاة بين القطبين وجعل المخاطب كالجميلات عبر الاصغاء الداخلي غير المقيد بمنطقية السمع بالآذان ، اذ كصل استبدال السمع بالرؤية ، (تنظر الى مايصغين) مما أحدث حساسية تخيلية وسعت من مديات صلة الجميلات بالمخاطب ، وتظهر علاقة النص بالطبيعة عبر مفردة العنب الذي يملأ السلال المترجرجة ، العتب النقي الذي فرش دلالته على الجميلات والمخاطب على حد سواء لينتهي النص بجملة خبرية ( وكتفه معلولة ) تضع المتلقي في فضاء رؤية النص الشعرية التي كانت هدفا لنثرية النص الذي اتسم بالوحدة العضوية والتكثيف.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة