رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 13
حوارات مع جرجيس فتح الله*

وكنت اتمنى ان يعلن صاحبي وقد بدا عليه الاشمئزاز واضحا ان يعلن انتهاء الزيارة وقد لحظ في عزمي . وكان (العطية) بدرجة من الذكاء بحيث حزر ما يجول في ذهنينا . واظنه كره ان يخيب رجاء شخصية بارزة . او انه قد يتحدى رجاء لرئيسه الوزير , فأبتدرنا قائلا :” لاول مره ولا اعتقد اني سأكررها سأتخطى هذه التعليمات والاتفاقات واكتفي بشهادة الوزير ؟ سألغي صيغة البراءة المطلوبة ولكن عليك ان تكتب لنا تعليقا قانونيا كهذا الذي تحدثت به , بهدوء ودون تجريح ولمجرد حفظه في ملفك فقط . لن اطلب منك براءة “.
وصدر امتياز جريدة “الرائد” باسمي, صحيفة غير سياسية .
وحوكم بهجت العطية كما تعلم بعد تموز امام محكمة استثنائية الفت بقانون ذي اثر رجعي . يخالف المبادئ القانونية الحديثة . وحكم عليه بالموت .وتابعت وقائع محاكمته والشهادات التي جمعت ضده فلم اسمع من خلالها من زعم بأن هذا الرجل شوهد او سمع يأمر او يقدم بنفسه على تعذيب انسان ونفذ به الحكم . لكن الإرهاب الذي مارسته دائرته والخوف الذي اشاعته بقي عالقا في الجو بعد ان تسلمها الضباط الاحرار بل زادوا تفننا بأقتباس ما ابتكره واجازه نظام جمال عبد الناصر من طرق التنكيل بالخصوم السياسيين . اني لاتخيله وحبل المشنقة ملتف حول عنقه بشفتين منفرجتين عن ابتسامة شامته ساخرة , تتحير فوقها عبارة ان لم يقلها هو فقد قلتها انا مرارا “صبرا قليلا. وسيأتيكم من يجعلكم تذكرون (بهجت العطية)ودائرته بحنين واسف”.

س: أيعني هذا انك ترى في ما جوزي به هذا الرجل الذي اشتهر بالقسوة والصرامة في ملاحقة العقائديين والمواطنين المخلصين غبنا وتجاوزا على القيم الإنسانية؟
يؤسفني ان اجر الحديث عن جريدة الرائد الى هذا المأزق . وما دمت قد بلغت به هذه المرحلة فلا اظن قارئي سيغفر لي الوقوف به عند هذا الحد . اريد اولا ان اخبرك بأني من دعاة الغاء عقوبة الموت في سائر القوانين ومهما كانت الجريمة , وانا عضو في الجمعية التي تأسست في انكلترا منذ العام 1955 للدعوة الي الغائها . ومساهمتي فيها كانت بكتابة مقالات صدرت لي في مجلة القانون التي كانت تصدرها نقابة المحامين في بغداد وبترجمة نشرتها لكتاب الاديب الفرنسي الشهير (فكتورهوغو) واسمه” اخر يوم لمحكوم بالموت” بالمناسبة . وقد طبع في تلك السنة.
هذا من جهة الا اني في اجابتي هنا لن انطلق من هذه الزاوية بل ربما طرأ على رأيي هذا تغيير جذري بعد حوادث الإرهاب العقائدية التي تقوم بها فئات لا تصلها بالبشر السوي صلة متسترة تحت الغيرة على الدين . اني انطلق هنا من وجهة نظر المؤرخ المتأمل في الوقائع والمضاهي بالنظائر والمشابهات , واليك بعضها :
في العام 1956 والتاريخ محفور في ذاكرتي وهو الرابع والعشرين من تشرين الثاني الغت حكومة من حكومات العهد الملكي سجن (نقرة السلمان) الرهيب الصحراوي واخلته تماما من السجناء السياسيين وغيرهم . وبعد اربع سنوات فقط قامت حكومة ثورة الرابع عشر من تموز بفتحه مجددا وراحت ترسل اليه بالعشرات ثم بالمئات ممن هتف وصفق للنظام الجديد وكلهم تقريبا من زبائن بهجت العطية القدماء وممن كان يقع ضمن دائرة اختصاصه .
ثم هل سمعت ان احدا من الشيوعيين في عهده قتل تحت التعذيب ثم اذيبت جثته في حامض النتريك ؟ كان هذا مصير الاستاذ “فرج الله الحلو” زعيم الحزب الشيوعي السوري من نظام “عبد الناصر “الثوري في 1959 او 1960 . الا فلتعلم اني لست في مقام ادانة او تبرئة هنا . ولست ادافع عن حلف السنتو , وصانعوه وهو حلف كريه لكن الاثم هو الحرب الباردة ,والتأريخ يدين بها معسكري الشرق والغرب على السواء فهي التي سلقت بنارها ظهور مناصري الجهتين . وكل عمل او اجراء مفروض بالقوة مهما ضؤل شأنه يهدف الى احتواء حرية المعتقد والتعبير هو الاثم الاكبر في نظري .
ليس بوسعي ان اجد الان العبارات القمينة بوصف حالي ساعة قرأت القرار بأسقاط الجنسية العراقية عن ثلاثة اعزاء من الخلان ورفاق نضال مذيلا بتوقيع صديق اخر طالما اكبرت فيه المروءة والنزاهة وسمو الخلق .
ولأعد الان لوصل ما انقطع حول “الرائد ” . صدر الامتياز في العام 1957 ربما بعد قيام جبهة الاتحاد الوطني بقليل . علمت مبدئيا ان الحزب الديمقراطي الكوردستاني لم يكن بعيدا عن هذا التنظيم وهو ليس حزبا , واذكر بهذا ان احدهم دس بيدي بيانا يحمل توقيع الاحزاب السرية والمعطلة الاربعة . الحزب الوطني الديمقراطي والاستقلال والبعث العربي الاشتراكي والشيوعي العراقي ولم اجد بينها اسم (الديمقراطي الكوردستاني) فأستولى علي العجب وكنت اذ ذاك فقد افتقدت الصلة بنقل (اليوسفي ) الى محكمة زاخو . لا ادري كيف علمت وانا اعد العدة لاصدار الجريدة –بأن (البارتي) لم يقبل في هذه الجبهة شريكا تام العضوية . وان قيادة الحزب ارتضت لنفسها بالدرجة الثانية في هذه التشكيلة المعارضة , فحز ذلك في نفسي . ثم علمت بأنه دخل الجبهة بوصفه تابعا للحزب الشيوعي وعبر لي احد الشيوعيين القياديين عن الكيفية بهذه العبارة او بما هو قريب منها . قال : ان الحزب الديمقراطي الكوردستاني ينسق مع الجبهة من خلال حلف بينه وبين الحزب الشيوعي العراقي . وسألت عن السبب , فقال : ان حزب الاستقلال والبعث العربي الاشتراكي رفضا مشاركة البارتي لانه حزب قومي بالدرجة الاولى , قلت : لكن هذين الحزبين قوميان ايضا .
تعذر علي فهم الموقف وطلبت تزويدي بمنهاج (البارتي) . وعند قراءته وانعامي النظر فيه , ادركت كيف سهل على قياديه الارتضاء بهذه المنزلة رغم الجماهيرية والشعبية التي نالها البارتي خلال عمره القصير بالمقارنة مع الاحزاب الاخرى وبعضها لا يزيد عن هياكل قيادات غابرة . او كأشباح موارة في غسق ليل مدلهم . كنا نعرف ذلك جيدا . لكن ما العمل ؟ ومعظم قيادي البارتي انذاك كان ممن يدل ويفخر بماركسيته.
وقررت لنفسي بمقابل هذه المهانة موقفا ثأريا بالجريدة نفسها وكنت قد اعتزمت ان اجعلها في خدمة جبهة الاتحاد الوطني بقدر ما يمكن ان تنجزه صحيفة غير سياسة في مضمار التوعية والتثقيف . وعلمت ممثلي الاحزاب المشاركة في مدينتي , بنيتي هذه وقد عرفوا بأنتمائي الحزبي منذ زمن . كان هناك صديقنا السيد عبد الغني الملاح معتمد الحزب الوطني الديمقراطي , والسيد غربي الحاج احمد المحامي معتمد حزب الاستقلال الذي استدعي يوم الرابع عشر من تموز ليتولى منصب المدير العام للدعاية والتوجيه ثم اصبح وزيرا في احدى حكومات عبد الرحمن محمد عارف . وهناك الاستاذ شاذل طاقة احد مثقفي حزب البعث البارزين في الموصل . سمت به المراتب في الفترة الثانية من حكم البعث ليغدو وزيرا للخارجية ثم سفيرا للاتحاد السوفياتي وقد اعتبط مأسوفا عليه وهو في اول الكهولة . عرفته انسانا طيب المعشر وداعا لين العريكة اديبا وشاعرا رقيق الحاشية محكم النظم . كان يرجى له مستقبل ونبوغ في عالم الشعر لولا السياسة . كان مدرسا للغة العربية في احدى ثانويات الموصل ك (يوسف الصائغ) احد المثقفين من حملة بطاقة الحزب الشيوعي. وقد شدت بين الاثنين عرى صداقة متينة فكادا لا يفترقان . يجيئان الي يوميا تقريبا سويا ويغادران سويا.
صار مفهوما للجميع ان “الرائد” وهيئة تحريرها بهذا القوام هي ليست جبهة الاتحاد الوطني بتشكيلها الذي وصفته قبل قليل وان الكلمة النهائية في سياستها هي لي وكلمتي فيما ينشر ويهمل لا تقبل نقاشات .
كان الجميع مسرورا بطبيعة الحال . فالجبهة لم تكن تملك شمال البلاد صحيفة مسخرة لها . والى جانب جريدة الحزب الوطني الديمقراطي في بغداد لا اذكر لها صحيفة اخرى تعبر عن وجهات نظرها وتنطق بلسانها . لم اقلق بالي بالناحية المالية فبها . فقد سلمت كل ما يتعلق بطبعها وتوزيعها للاخوة الثلاثة اصحاب امتياز جريدة (الروافد) , متنازلا لهم عن كل وارداتها من بيوعها وبدل المشاركة والاعلان وغيرها وكما قلت في البداية كان الكسب المادي اخر ما فكرت فيه بل لم افكر فيه مطلقا .

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة