ملاحظات نقدية في القص النسوي العراقي

أشواق النعيمي

– انعكاسات امرأة لإيناس البدران

تمثل المرأة في المجموعة القصصية «انعكاسات امرأة» ثيمة ومحوراً أساسياً يلتف حوله الحدث أنها ليست انعكاسات لعواطف وهواجس المرأة بقدر ما هي انعكاس للواقع بكل تجلياته من خلال موشور أنثوي يحلل معاناة المرأة في لغة شفيفة يتداخل فيها الواقعي بالخيالي كاسرة طوق الزمن في انتقالات سردية عائمة بين الماضي والحاضر، تتماوج بين أمس لا يخلو من رفقة وغد يترقب الأمل.

بنيت معظم القصص على طريقة السرد الدائري، إذ يبدأ من نقطة ليعود اليها، تبدأ القصة الأولى (انعكاسات امرأة) بفعل الاستيقاظ كنتيجة لمؤثر سلبي تكرر في القصة التالية وهو المنبه، والذي ينتقل بالشخصية من عالم الحلم والراحة المؤقتة الى عالم الواقع حيث الجسد المتعب بآلامه المثقل بهمومه في سرد يسير في خط مستقيم من دون أي ارتدادات زمنية. القصة بوح حزين يفيض بالوجع ومشاعر اللاجدوى، والرضوخ لحكم الواقع، تحولت المرأة فيه الى مجرد وعاء هش فقد لون الحياة. ولإكتمال سوداوية الصورة نجد أنها تؤطره بحالة الخوف والموت الذي تجسد ببعض الكلمات والجمل السردية التالية نحو (العدو يقصف، يجتاح، القتال، شريعة الغاب، الغاية تبرر الوسيلة)، وبرغم مرارة الواقع نجدها تغالب مآسي واقعها بحلم مجهول ونظرة مراقبة مستفسرة في عيني ابنها وهي تسألها عن جدوى اهتمام المرأة بجمال منظرها.

استثمرت القاصة المكان الخيالي مسرحاً لأحداثها، حيث المدينة منتحبة، غامضة بسمائها القصديرية وغيومها العقيمة، إنها مدينة الخوف والضجر. تسرد الأحداث في قصة (اشارات ضوئية) بنحوٍ متداخل زمنياً ودلالياً وهو من أنماط السرد مابعد الحداثي الذي يبنى على تقديم الأحداث من دون الاهتمام بتتابعها الزمني بل بارتياد مستويات الكلام من الوعي بهدف الكشف عن الكيان النفسي للشخصية المحورية (المرأة) التي لا تختلف كثيراً عن المرأة في القصة الأولى، إنها المرأة المتعبة باستيقاظها المثقلة بهمومها، المحملة بمشاعر الضيق والملل من روتين حياتها اليومية تؤرقها رغبة شديدة في الانطلاق بعيداً مستثمرة من رمزية النهر معادلاً موضوعياً لتلك الرغبة، إذ يمثل جريانه ولادة الحياة ودفقها واستمرارها.

إنها تبحث عن الحلم في مدينة معادية، وتعلم أن البحث شيء وتحقيقه تحت سماء الوهم وفوق الأرض الرخوة شيء آخر. تحكي قصة (الاكتواء بثلوج كليمنجارو) قصة امرأة خرجت مع بعثة أستكشافية لا طمعاً في مجد أو لهدف علمي نبيل، لقد تركت حياتها من أجل كذبة صدقتها ولم تدرك أنها كذبة الا وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة هناك فوق قمم تلك الجبال الجليدية الموحشة.

وصف خيالي شفيف للفضاء المكاني من منظور سردي للشخص الفاعل وإدراك خارجي وداخلي محدودان على مستوى العمق تقول القاصة: (قبيل الفجر هدأ كل شيء غطس القمر في كتلة العدم فتناثر رذاذ.. اختلط بخيوط مضرجة بالدهشة). أما قصة (الشمس السوداء) فتنتمي الى نمط الحكايات الغرائبية أو السرد العجائبي الذي يقترض من الفانتازيا خيالها المفرط، حيث عالم الفضاء الخيالي في كوكب تحكمه السلاحف الرمادية ويساق شعبه للعمل كعبيد. يسعى البطل الى البحث عن قصة مثيرة لقرائه فيجد ضالته المنشودة في كوكب الأحلام المتناقض والذي يخلو من العدل والمساواة والحرية واللعبة الوحيدة التي تمارس فيه على سبيل الترفيه هي لعبة الكراسي في مقاربة الواقع السلبي من خلال اللاواقع والغرائبي في فانتازيا تتضمن رؤية استشرافية متشائمة تتجلى في الحوار الثنائي بين الرجل الأرضي وفتاة كوكب الأحلام. تختم القصة بمنظر غروب الشمس الذي أبهر البطل ليتضح في ما بعد أنها ليست شمساً حقيقية، بل هي شمس مصطنعة بديلة عن الشمس الحقيقة التي أنطفأت منذ أمد بعيد في دلالة رمزية على انطفاء روح الحياة واستبدالها بروح زائفة لا حياة فيها. في قصة (الجدار) نلمح انحراف المسار السردي عن ثيمته وجنوحه هذه المرة الى الرجل حيث يسود التبئير الصفر، فلا صوت مسموعاً للشخصية الوحيدة بل سرد تقليدي يهيمن عليه السارد العليم، تنتمي القصة الى (أدب السجون) إذ إن السجن بطل مشارك الى جانب الشخصية تقول القاصة: (حيث الزنزانة وعاؤه الذي يحتويه وصدفته التي يضيق بها ويحتمي في آن واحد)، يحتمل مضمون الرؤى في القصة عدة مدلولات منها ولادة الحياة من صلب الموت حين انبثقت نبته خضراء من بين شقوق الحجر القاسي والاصرار على مواصلة الحياة والصمود برغم كل شيء عندما استطاع البطل فتح كوة في الجدار بضربة قاصمة من يده. استطاعت القاصة أن تمسك بطرفي المعادلة الشائكة الحياة والموت مستثمرة تقنية التلخيص غير المحدد في خطابها السردي الذي أتاح لها تلخيص الأحداث الواقعة في عدة سنوات وذكرها في مقطع واحد من دون الخوض في تفصيلاتها.

– المظلم والمضيء لإيمان السلطاني

بنية التضاد سمة المجموعة القصصية (المظلم والمضيء) والمتضمنة عشر قصص في الباكورة الأولى للقاصة ايمان السلطاني، تقوم المجموعة على بنية التضاد سواء كان ذلك في المفردات أم المعاني أو الأحداث حيث تشكل المرأة في معظمها ثيمة ومحوراً أساسياً تدور حوله الأحداث، حتى لو كان البطل رجلاً نجدها أيضا حاضرة لكن من وجهة نظر الآخر زوجاً كان أم حبيباً. في القصة الأولى المعنونة بـ(المظلم والمضيء)، نجد أن مفردة الظلام قد اتخذت مركز البؤرة في النص مع مترادفاتها ومتضاداتها كالضوء والظلمة، والنور والظلام، القسم العلوي مضاء والقسم السفلي مظلم، كما ان مشاعر البطلة قد بنيت في البداية على هواجس الخوف الملازم لها في حلمها ويقظتها قد تحول في ما بعد الى الشعور بالشجاعة والتحدي مما يناقض المشاعر الأولى. كما وتضج قصة (لحظات حرجة) بالتضادات اللغوية مما يعكس التناقض الواضح في شخصية البطلة؛ اذ كانت صفحات حياتها الزوجية سوداً تارة وبيضاً تارة أخرى، أما زوجها الذي كان يدقق في كل صغيرة وكبيرة من شؤون البيت ليسخر منها ويتهمها بالسذاجة وعدم التحضر فنراها تخاطب نفسها باستعمال ضمير الشخص الثالث وتسألها: هل تستطيع الثورة أو الثأر والاستسلام، هل عليها أن تغدو متمردة أو أسيرة، طليقة أم تعاني تهمة. وعندما راودتها فكرة التخلص من التحفة التي أثارت غضبها وانزعاجها ظلت مترددة بين الإقدام وعدمه، فكانت تقدم خطوة الى الأمام، تتبعها خطوات الى الوراء، لقد انزلق كل شيء الى المجهول وهي تهرب الى اللامجهول.

إن القصة تجسد ذلك الصراع والتناقض الذي يجوس في دواخل كل امرأة. في قصة (الذاكرة المحروقة) فنجد أن التضاد قد تجلى في مفردات مثل: غاد، ورائح، وقائم، وقاعد، جماعات، وأفراد، كما نجد أن التضاد كان واضحاً في انطفاء جذوة الحياة عند البطل في البداية لتعود وتتوهج نهاية القصة، فالقاصة تبني أحداثها على أساس الانقلاب الضدي في النهاية. في (خطوبة ولكن) نجد ان حالة البطلة غامضة الملامح الا من حالتها المرضية الملازمة تتراوح بين اخضرار الأمل وتلاشيه عند بئر جافة أو أطراف صحراء قاحلة، حتى هواجس خوفها التي لا تعلم أن كانت حلماً تفيق منه أو حقيقة ستصحو منها على سنا توهجها. وفي قصة (هوس الليل) تعودت البطلة أن تأوي في كل ليلة الى فراشها حيث تعيش صراعاً مريراً مع الأرق وكأنها على موعد معه، إنها تنتظر مجيئه هرباً من النوم، أو الهرب من الأرق الى النوم. في (حنين الماضي) يتجلى التضاد في مركز البؤرة بانتقال البطل من حال الى حال مضاد من عامل بسيط يعمل في محطة الى رجل غني، كما أن القاصة تستهل القصة بالمفردات المتضادة، حيث يمسك البطل بطاقة دعوة زواج ولده ويمعن النظر في الداعي والمدعو، يطيل النظر الى مظلة السيارة وقد رسمت عليها صورة عيني امرأة فيتخيل أن العين تغمز وتبتسم تارة وتحزن وتغضب تارة أخرى، يعاود الرحيل دائماً الى نقطة بدايته عندما كان عاملاً بسيطاً فيتراءى له أنه يصعد جبلاً ثم تحاول قوة ما أن تدفعه نحو الهاوية، انه الحنين الى العالم الأول والعجز المضني عن الانسلاخ عن المكان والصحب الذين كلما اقترب منه خطوة ابتعدوا عنه خطوات لشعورهم أنه لم يعد ينتمي الى عالمهم.

لقد رصدت انزياحاً لبعض المفاهيم عن معانيها الأصلية أو احتمالها لمعاني مضادة للمألوف المتداول، فالصورة المعلقة على الحائط في قصة (المظلم والمضيء) نجد أنها خرجت عن مدلولها ووظيفتها الأصلية في تجميل الجدار وأصبحت تثير مشاعر مبهمة من الخوف والغضب، كما أن التحفة في (لحظات حرجة) المتمثلة بشكل فتاة هندية تمد ذراعيها الى فوق رأسها حاملة مرآة مستديرة بحجم الكف انزاحت عن دلالتها كزينة مثيرة للاحساس بالجمال الى مثيرة للاحساس بالتقزز والاشمئزاز بمرآتها المحدبة التي تحول الوجه الى هيئة منتفخة عديمة الملامح، كما أن الشارع مكان الحركة الانتقالية للشخصيات أمسى في القصة نفسها مكاناً للفزع والموت. في قصة (الوهم) وحيث إن عقد القران هو حلم وحدث سعيد لكل فتاة فقد تحول بالضد من وظيفته في تلك القصة وأصبح حدثاً مثيراً للألم والضيق للبطلة للحد الذي دفعها للهروب من المنزل. كما أن الامتحان في (الذاكرة المحروقة) قد انزاح عن دلالته كاختبار لمهارة الطالب المعرفية الى مصدر لألم الرأس والغثيان لبطل القصة، أما البيت مكان الراحة والاستقرار والهدوء فقد تحول في (خطوبة ولكن) الى مكان مزعج يضج بالفوضى والصراخ. في قصة (حنين الماضي) استثمرت مفردة المطر في غير دلالتها المعروفة من حيث ان المطر مصدر للحياة والنماء بل انه رحمة للعالمين، قال الله تعالى: ((وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد)) فقد تسبب المطر في القصة بغرق الشوارع والبيوت بل وتلاشي المدينة بأكملها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة