الحادث الذي طارد «نجيب محفوظ» في أحلامه

د.خالد عبدالغني

تحت العنوان التالي «إنفراد محمد سلماوي يروي الحلم الأخير لنجيب محفوظ :» في ذلك المساء تطرق حديثنا – نجيب محفوظ ومحمد سلماوي – إلى الأحلام فقال لي أن هناك حلماً يحيره ، فقد جاءه منذ بضعة أيام لكنه كان ما زال يفكر كيف سيحوله إلى نص أدبي ينتظم مع بقية أحلام فترة النقاهة، ثم رواه لي فقال: « إني حلمت بأنني كنت سائراً في أحد الشوارع وكان ينتابني خوف بسبب وجود بعض قطاع الطرق الذين يهاجمون المارة ويسرقونهم وقد يصيبونهم بأذى أيضاً بالمطاوي والسكاكين التي يحملونها، ووسط خوفي هذا قابلت بالمصادفة صديقي المرحوم الدكتور حسين فوزي الذي أصبح يظهر الآن بنحو متكرر في أحلامي، وما إن رأيته حتى قصصت عليه قصة هؤلاء المجرمين الخارجين على القانون والذين يتربصون بالناس في الطريق العام. فقال لي حسين فوزي على الفور: ده أنا أمنيتي أن أقابلهم، إلحقني بهم فدهشت لذلك لكني أخذته إلى حيث يوجدون وتركته ومضيت إلى حالي. وبعد فترة جاءني الدكتور حسين فوزي يقول: تعالى بقى شوف الحرامية بتوعك! فذهبت معه وأنا ما بين الخوف وحب الاستطلاع، فوجدت المجرمين الذين كنت أخافهم وقد ارتدوا البدل السموكنج السودا مثل عازفي الاوركسترا السيمفوني وكل منهم أمامه النوتة وفي يده آلته. وهنا قال لي الدكتور حسين فوزي حاسمعك دلوقت سيمفونية بيتهوفن الخامسة! وبالفعل عزفت لي أوركسترا قطاع الطرق السيمفونية الخامسة لبيتهوفن (انتهى الحلم). وما إن انتهى الأستاذ من الحلم حتى قلت له إنه حلم جميل ومعناه أجمل فهو يروي كيف يمكن للفن أن يحول المجرم إلى عازف مرهف الحس، قال: لكني ما زلت أقلبه لا أعرف ماذا سأصنع به. ويستطرد محمد سلماوي قائلاً:» وإلى أن رحل محفوظ بعد ذلك بخمس سنوات لم يكن قد نشر هذا الحلم».
هذه هي المرة الأولى التي يتاح فيها نشر حلم حقيقي رآه نجيب محفوظ وهذا الحلم يستمد قيمته من أنه حلم حقيقي – نقي- رآه نجيب محفوظ أثناء النوم ولم يتدخل فيه بالإبداع، ومن ثم فهو يعد وثيقة مهمة جداً تكشف في واحد من أهميتها عن الحالة النفسية التي عاشها نجيب محفوظ في عام 2001، إن أبرز ما في هذا الحلم أنه عبر عن أعراض إضطراب الضغوط التالية للصدمة وهي مجموعة من الاضطرابات النفسية تصيب من تعرضوا لأحداث أو ظروف مفاجئة وصاحبها ضغط نفسي شديد كان فوق احتمالهم مثل ظروف وأحداث الكوارث والحروب والزلازل والاختطاف والاغتصاب والاعتقال والاغتيال وحوادث السيارات، ولهذه الاضطرابات مجموعة من الأعراض منها: تذكر الحدث الضاغط باستمرار، والعيش مع الانفعالات العنيفة التي صاحبته، وظهوره بشكل متكرر في أحلام الفرد أو على هيئة كابوس أو فزع في أثناء النوم، وفقدان الثقة في النفس وفي الآخرين، والإحساس بتفاهة الحياة والرغبة في التخلص منها، والتشاؤم من المستقبل، وما قد يخبئه القدر، والخوف الزائد، والقلق العام، والعصبية، وعدم انتظام النوم، واضطراب الشهية للطعام.
فقد كان الحدث الأصعب في حياة نجيب محفوظ يوم الجمعة 15/10/ 1994 عندما تعرّض له شاب غضّ لم يقرأ كلمة مما كتبه نجيب محفوظ ولم يكن يعرفه، هذا الشاب طعن نجيب محفوظ في أسفل عنقه وفرّ هارباً، وعانى نجيب محفوظ سنوات بسبب الاعتداء عليه، ووهن جسده، وخفّ بصرُه، وثقل سمعه، وقلّت حركته، وتقلّصت مشاويره، وتحدّد المقربون منه. ولكنه عاد ليزاول الإبداع.
وينجو نجيب محفوظ من محاولة الاغتيال – بمعجزة – بعد عدة طعنات بالرقبة وقد جاوز الثمانين من عمره يومذاك. ويتم العثور على الطبيب المنقذ قبل ركوب المصعد بثوان معدودة ليكون الاكتشاف بأنه من كبار المختصين في مثل هذه العمليات. لتتحقق معجزة النجاة من الموت – القتل – ليصبح الناجي من محاولة الاغتيال الآثمة – التي تشبه الشوطة التي ألمت بالحارة وقضت على من فيها في ملحمة الحرافيش – وهل كان تكفير المبدعين والكتاب والفنانين والمفكرين في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، ورفع دعاوى الحسبة عليهم والتفريق بينهم وبين زوجاتهم.
وبعض أعراض اضطراب الضغوط التالية للصدمة قد تجاوزها نجيب محفوظ ولكن بعضها الآخر ظل موجوداً في اللاشعور يؤرقه وبالتالي ظهرت تلك الأعراض في الحلم، كما أنه من الثابت أن نجيب محفوظ طلب العفو عن المتهمين في قضية محاولة الإغتيال، وفي الحلم لا يتمنى لهم العقاب، ولكن يريد هدايتهم ومن ثم عبر الحلم عن تأثير الاضطراب عليه حيث يستحضر جانب كبير من الأزمة/الحدث المؤلم والخوف المصاحب له وفزعه من اللصوص وقطاع الطرق ونجاته منهم وعفوه عنهم.
وأما ضربات القدر فتشير الى بيتهوفن والسمفونية الخامسة وبناء على ما سبق نكتشف في الحلم أن نجيب محفوظ توحد بـ (بيتهوفن) الذي كان مصاباً بالصمم. واعتزل الناس، وكذلك نجيب محفوظ ضعف سمعه حتى اقترب من الصمم في سنواته الأخيرة وضعف بصره لدرجة اقترابه من العمى، ولذلك اعتزل الناس إلا من بعض الزيارات القليلة، وبرغم ذلك أبدع «أصداء السيرة الذاتية» و»أحلام فترة النقاهة» – آخر ما كتب – وكذلك بيتهوفن أبدع أعظم أعماله في ظل فقدان السمع، وعندما نعرف أن السيمفونية الخامسة تحمل عنوان «ضربات القدر». يبدو أن الحلم من التجلي والوضوح بحيث يكون هو ايضا «ضربات القدر»، فضربات السكين في رقبة نجيب محفوظ في محاولة الإغتيال الأثيمة والتي طاردته في أحلامه تشبه «ضربات القدر» السيمفونية الخامسة لبيتهوفن.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة