وعي الدولة

لهيغل عبارة مشهورة يقول فيها: (الحرية هي وعي الضرورة) تختزل بين ثناياها فهماً مكثفاً لتلك المفردة الأشهر والأكثر رواجاً بين البشر. فلا حرية من دون وعي وادراك لطبيعة الشروط الزمكانية المحيطة بها، وهذا ما ارتقت اليه الامم الحرة عبر سلسلة من الثورات العلمية والقيمية، اوجدت لهم نمطاً من الحياة المحصنة بالتشريعات المترعة بالحقوق والحريات المناصرة لتطلعات الانسان المشروعة. وعي الضرورة هذا يتجلى بشكل اساس في نوع النظام القانوني والسياسي الذي اوجدوه (الدولة) ونجحوا من خلاله لا بوضع حد للاشتباكات العضال بين الجماعات والافراد وحسب بل حولوا تلك التجاذبات الى عوامل دفع اضافية للتطور والتغيير الايجابي، حيث الديناميكية التي تتيح للتطلعات والمشاريع البناءة كي تأخذ طريقها الى التنفيذ بكل يسر وانسيابية.

مثل هذا الوعي هو ما نفتقده اليوم نحن سكان هذا الوطن القديم، والذي ما زالت قوافله وقبائله وملله تعيش ذات المحنة التي عاشها الملك فيصل الاول في الربع الاول من القرن المنصرم، محنة (وعي الدولة) عندما تفجرت دماملها بعد عقود من التجارب والفزعات الخائبة عن مفاجئات تعجز عن نسج سيناريوهاتها استوديوهات الانتاج الهوليودية، كما حصل في ثاني المدن العراقية اهمية بعد العاصمة بغداد، عندما تفاجئ المصلين في جامع الموصل الكبير بظهور نسخة داعشية من الخلافة العباسية ليلقي عليهم خطبتي الجمعة يوم 4-7-2014 متوجاً بذلك عصراً من الغيبوبة والهلوسات استندت الى ارث هائل من التعاويذ والروايات المعطوبة.

ان ما نواجهه من تطورات خطرة ودراماتيكية، هي نتاج لحزمة من العوامل والصدف السيئة، اتاحت لحثالة البشر تلقف زمام الامور في هذا الوطن المنكوب، عندما جعلوا من تعدديته وتنوعه القيمي والثقافي، ذلك الرأسمال الرمزي الذي لا ينضب، الى لعنة ومصدراً للتشرذم والانحطاط  بسبب من ضحالة العقائد والآيديولوجيات المسيرة لهم. ان وعي مستلزمات وشروط بناء الدولة الحديثة ووجود الملاكات والزعامات التي تضع هذه المهمة على رأس اولوياتها، هو من بمقدوره وضع حد لكل هذه الاشتباكات الخائبة والمشاريع المتناحرة على حساب المصالح العليا للوطن والناس. هذه المهمة تبدو يتيمة وسط عجاج المتدافعين عند اطراف الغنيمة الازلية، خاصة بعد ان آلفت النسخة الجديدة من الخلافة بين قلوب عدد غير قليل من ارتال وفصائل قراصنة ما بعد الحداثة وبقايا الفلول، للانخراط بجولة اخرى من جولات اعادة تقاسم الغنائم والاسلاب، والتي نأمل ان تستثير ما لدينا من حكمة ومسؤولية وقوى حية كي تنقذ ما تبقى لنا من وطن وقيم وارث مشرق في الكفاح من اجل الحرية عبر “وعي الدولة”.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة