يشهد العراق أكبر وأسوأ عملية نزوح سكاني في تاريخه بسبب العنف الطائفي والعرقي الذي تمارسه العصابات الإرهابية والجهات الداعمة له. وباتت حركات النزوح السكاني الواسعة تشكل تهديداً لخارطة الوطن وحدوده وصورته وشكله الذي حفظناه عن “ظهر قلب” كما يقولون…أي منذ أن نطقنا بالدار والدور والنار والنور، خارطة الوطن هذا الشكل والرسم الجميل الذي طبع في قلوبنا وعقولنا منذ أن رأيناه لاول مرة على صفحات كتبنا ومناهجنا الدراسية وعلى جدران صفوفنا المدرسية وفي الاطلس العراقي!
مجموعاتٌ كاملة من ” القوميات والمكونات والطوائف والعشائر والاقوام والعوائل والأفراد ” تختفي من مساكنها التقليدية والتاريخية وتتبعثر في أرجاء “المجهول”!
أضطرت العوائل العراقية الأصيلة من المسيحيين والتركمان والشبك والأيزيديين اللجوء الى مرتفعات وأودية “سنجار” الصخرية خوفاً من بطش العصابات الإرهابية بعد تركها لمساكنها وما تملكه فيها من عقارات ومزارع وحقول ومدخراتٍ وأحلامٍ وأمنيات!
هذه المنطقة الجبلية الوعرة التي تفتقر إلى الماء والزرع والغذاء والحياة. معاناةُ كبيرة تمثلت بالإرهاق والإعياء والعطش والجوع والخوف الذي أصاب الأطفال والنساء والشباب والشيوخ جراء رحلةٍ طويلةٍ شاقة..قطعوا فيها عشرات بل مئات الأميال جرياً ومشياً على الأقدام في مناخٍ يشهد ارتفاعاً غير مسبوق في درجات الحرارة إضافةً الى أشعة الشمس “الحارقة الخارقة” لأجساد بني البشر، لكن بعض الحر والجوع والعطش أهون من الذبح والقتل والتمثيل والتنكيل !
وسط أنتظار المستقبل “المجهول” الذي ينتظرهم في هذا المكان، جلس عدد من الصبية الذين لاتتجاوز أعمارهم الاثني او الأربعة عشر عاماً، “سركون وجعفر وحنين ومحمد وسامان وسمير وتقي ووو …” توزعوا على الصخور المبعثرة في الوادي الذي اصبح مسكنهم ..ودار بينهم حوارٌ بريء عن المدارس وامتحانات الدور الثاني والنبي يونس وشيت وجرجيس ودير متي والغابات والدواسة وشربت الزبيب واللبلبي والصمون ومنارة الحدباء والفيسبوك والفايبر والواتساب والألعاب والأكس بوكس والبرشا والمدرب الجديد والريال والكلاسيكو وميسي ورنالدو وتوني كروس وجيمس رودريغز، إضافةَ إلى استذكار اللحظات والذكريات الجميلة في مناطقهم .. الكوفي شوب والكافتريات والمول والحدائق الجميلة وقاعات وساحات الالعاب الرياضية والاغاني الموصلية “ياردلي ..سمرة قتلتيني “.. و”ياسماق … ياسماق أكلي دهينة وما تنطاق ” والبرغل والكبة، أرتفعت أصوات ضحكاتهم وابتسامتهم ومزاحهم ليملأ أرجاء ذلك المكان المكفهر الكئيب كاسرين حاجز الحزن الذي كان يطغى على تلك المنطقة، فجأة قاطعهم صديقهم “عيسى” وطرح عليهم سؤالاً قائلاً لهم : ” أخوان الدوري الاسباني والانكليزي راح يبدأ، تتوقعون راح نكدر انتابعهم وانشوفهم مثل العام الفائت؟
ساد الصمت وخيم الحزن من جديد على المكان وتبادل الجميع النظرات الحائرة فيما بينهم بحثاً عن إجابةٍ تبدد قلقهم..سقطت الدموع من عيون الجميع، رغم إرادتهم، وأجهش البعض منهم بالبكاء، واتجهوا بنظرهم الى الأفق البعيد الذي كان شاخصاً للعيان من بين المرتفعات الصخرية وهو نفس الاتجاه الذي جاؤوا منه هاربين بحثاً عن إجابةٍ تحسم وضعهم وتسرع في عودتهم إنهم يحبون الحياة والإنسانية والمستقبل وينبذون القتل والدمار والخراب، لايريدون الموت ذبحاً على أيدي أصحاب العقول المريضة والمتحجرة، أسئلةٌ كثيرة في زمن المصير الذي مازال مجهولاً!
ضوء أثبت المجتمع الدولي إجادته لفن الصمت والتدليس وهو يشاهد قتل ونزوح ملايين العراقيين!
عاصم جهاد