اتصور ان الحكومة العراقية تملك تفسيراً لموقف واشنطن حيال محنتها الكبيرة بعد احتلال داعش لمناطق واسعة من العراق، بعد ان كانت تدعمها وبقوة في حملتها العسكرية في الفلوجة قبل الاحتلال بأسابيع قليلة. فالتحدي اليوم اكبر بكثير من تحدي الأمس، وداعش لم تتوقف عن احتلال المدن من دون مقاومة! وسط انهيار الجيش. واشنطن التي نصبت نفسها شرطية العالم والعدو الأول للإرهاب الذي تمثله اليوم داعش خير تمثيل، تتعامل مع احداث العراق ببرود غير مبرر، تكتفي بالتصريحات، وتدرس امكانية مساعدة العراق في مواجهة داعش على الرغم من انها تملك قواعد عسكرية في بلدان مجاورة يمكنها في أية لحظة توجيه طائراتها لضرب معاقل المسلحين او القيام بعملية برية تهدف لمساندة الجيش العراقي خصوصاً وان بغداد هي التي تطلب ذلك. كما لا يخفى امكانياتها في التجسس وكشف ما يصعب كشفه على الاخرين، فهل تعجز اليوم عن كشف مواقع قادة داعش؟ ثمة تصريحات صدرت مؤخراً عن مسؤولين اميريكيين برروا تباطؤهم في مساعدة العراق عسكرياً، عبر وضع شروط أقل ما يقال عنها، تدخلا في الشأن العراقي الداخلي أولا، وثانياً التعبير عن وجهة نظر المعارضين للعملية السياسية التي قامت هي بتأسيسها ووضع الأسس والقواعد لها. ومؤخراً صرح الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، الى أن “تشكيل حكومة في بغداد يجب ان يتم قبل ان تقدم واشطن مساعداتها”، مضيفا “ان داعش يشكل تهديداً على المدى الطويل إلى الولايات المتحدة وليس تهديداً طارئا”.وقبلها كشفت صحيفة وول ستريت جنرال في تقرير موسع تخللته مقابلات مع عدد من المسؤولين في وزارة الدفاع الاميريكية ان البيت الابيض لا يفكر بتقديم المزيد من المساعدات العسكرية للعراق من دون توصل الاطراف السياسية الى اتفاق على تشكيل الحكومة المقبلة. من خلال قراءة تصريح المسؤول العسكري الأميريكي يتبين لنا حقيقية الموقف الخجول للإدارة الأميريكية، فهي تربط مساعداتها بتشكيل حكومة! فكما هو معروف ان تشكيل أي حكومة عراقية تحتاج الى أشهر نتيجة للخلافات والانقسامات المذهبية والسياسية بين القوى العراقية، في حين خطر الإرهاب يزداد كل يوم، ويحتاج الى حلول عاجلة بدلا من الانتظار أشهر، فمن الممكن ان تدخل داعش الى بغداد والحكومة لم تتشكل بعد. وهذا المطلب كما قلنا يشكل اعترافاً صريحاً بمطالب المتمردين والمعارضين، الذين يحاربون الدولة ويقتلون افراد الجيش والشرطة ويخربون المؤسسات ويتعاونون مع الإرهاب ويرفضون أي مظهر من مظاهر الدولة المركزية في مناطقهم بحجة ان الحكومة همشتهم واقصتهم من حقوقهم السياسية. فبدلا من ان تتبنى الإدارة الاميريكية الموقف الرسمي العراقي تبنت الموقف الاخر، كنوع من اضفاء الشرعية عليه. وليس مستبعدا ان تتبناه دولياً واممياً فيما لو طرح الى المجتمع الدولي. وبالنسبة لحقيقة تلك المطالب، فهي لا تتعدى ان تكون حجة لها لتبرير تمردها وغاياتها الحقيقية التي كانت تخجل من الاعلان عنها، لكنها نزعت ثوب الحياء مؤخراً عندما صرح ممثلو الفصائل المسلحة التي تقاتل في العراق على هامش اجتماعهم الاخير في عمان بأن مشكلتهم الحقيقية ليست مع شخص رئيس الوزراء، بل مع النظام بأكمله. فهم يرفضون فكرة ان يشاركهم احد في الحكم، ويرفضون ان تكون حصتهم في السلطة تبعا للاستحقاق الانتخابي، بل يريدون ان يكونوا في الصدارة والاخرون تحت سلطتهم. والا، ماذا نسمي ان لهم الكثير من الوزراء والمسؤولين الكبار في الدولة من صناع القرار والمؤثرين في سير العملية السياسية، ويأخذون اكثر بكثير من استحقاقهم الانتخابي والسكاني. فماذا تغاضت اميريكا عن تلك الحقيقة برغم انها تدرك جيداً نواياهم قبل ان يصرحوا بها؟ ولو افترضنا صحة تلك الادعاءات، انهم مهمشون ومحاربون من قبل الحكومة، وانها طائفية. فهل التعبير عن رفضها يكون بهذا الشكل؟ هل السماح للاجنبي الارهابي بقتل ابن البلد وتفجيره هو الرد المناسب على طائفية الحكومة؟ اليس الاجدى بهم اتباع الطرق القانونية والدستورية للتعبير عن ذلك الرفض؟ خصوصاً وانهم يملكون الكثير من الممثلين لهم في السلطتين التشريعية والتنفيذية. فكيف لا يمكن للولايات المتحدة ان تدرك تلك الحقائق وسفارتها في العراق من اكبر السفارات بالعالم؟ ثم ان المنتفضين أو الثوار كما تسميهم وسائل الاعلام المعادية للدولة، لا يملكون الحق في القيام بأي عمل نيابة عن شعب تلك المدن، فلم يخولهم احد وحتى لم يطلبوا منهم القيام بأي عمل عسكري ضد الدولة بحجة الدفاع عن حقوقهم، وهم الذين اختاروا العيش تحت مظلة الدولة العراقية عندما صوتوا لصالح الدستور الذي يعد عقداً سياسياً واجتماعياً الزموا به انفسهم، ولا يحق لهم التراجع عنه، وهم لم يتراجعوا! ثم انهم شاركوا في الانتخابات البرلمانية واختاروا من يمثلهم في البرلمان لكي يتحدث بالنيابة عنهم، ولم يكن من بينهم احد ممن يرفع السلاح بوجه الدولة التي هو جزء منها. التغيير الذي حصل خلال الايام القليلة بالموقف الاميريكي لم يأت من ادراكها بالخطر الحقيقي الذي تشكله داعش على الدولة العراقية وانما لحسابات اخرى، فهي اعلنت مؤخراً استعدادها لدعم البيشمركه وتسليحها بعد ان احتلت مدناً كانت تحت سيطرة قوات حرس حدود الاقليم وتعد من المناطق الكردستانية الواقعة خارج الاقليم كما سماها رئيس الاقليم، ووصولها الى حدوده مما استدعى واشنطن الى التحرك بسرعة وتوجيه ضربات جوية ضد معاقل التنظيم كما اشيع في الاخبار وتحدث عنه وزير الخارجية المنسحب. فلماذا يا ترى لم تتحرك واشنطن عندما تقترب داعش من بغداد بحجة تهميش احدهم وتحركت بسرعة البرق عندما وصلت اربيل؟ لماذا لم تنتظر تشكيل الحكومة حتى تتحرك؟ يجيب على ذلك البيان الذي اصدرته وزارة الدفاع الذي قال ان سبب تفويض الرئيس الامريكي لجيشه توجيه ضربات جوية في شمالي العراق لحماية الاميريكيين العاملين في اربيل وكسر الحصار الذي فرضه داعش على الاف العراقيين المحاصرين في جبال سنجار! السؤال هو: هل ان اوباما لا تهمه سلامة موظفيه في بغداد؟ اليس لديه الاف من الموظفين في اكبر سفارة لبلاده في العالم مقرها بغداد؟ اليس هناك عراقيون محاصرون من قبل داعش في مناطق الوسط وخصوصاً اطراف بغداد وديالى والانبار؟ وفي صورة اخرى للتجاهل الاميريكي وعدم احترام الاتفاقيات بينها وبين بغداد، صرح مسؤول لبناني ان واشنطن سلمت لبنان اسلحة كانت معدة للتصدير لصالح بغداد، وطبعاً ثمنها مدفوع مسبقاً، لكن يبدو ان الخطر الداعشي على بيروت اولى بالاهتمام من خطره على بغداد. ان مواقف واشنطن تجاه التحدي الاكبر الذي يواجهه العراق الان ينبغي ان يدعو المسؤولين الى اعادة النظر بالعلاقة معها ومراجعة السياسات الخارجية ومحاولة ايجاد شريك آخر يؤمن مساعدة البلد في وقت الازمات.
سلام مكي