حرب الأيام الستة في الخمسين

ريتشارد هاس
مدير تخطيط السياسات السابق في وزارة الخارجية الأميركية
بعد أيام قليلة يشهد العالَم الذكرى السنوية الخمسين لحرب يونيو/حزيران 1967 بين إسرائيل ومصر والأردن وسوريا ــ وهو الصراع الذي ما تزال آثاره باقية في منطقة يتسم تاريخها المعاصر بالعنف إلى حد كبير. وبرغم أن تلك الحرب دامت أقل من أسبوع، فإن إرثها ما يزال واضحا قويا بعد مرور نصف قرن من الزمن.
اندلعت الحرب ذاتها بفِعل ضربة إسرائيلية استباقية استهدفت القوات الجوية المصرية، ردا على القرار الذي اتخذته مصر بطرد قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من غزة وشبه جزيرة سيناء وإغلاق مضيق تيران أمام سفن الشحن الإسرائيلية. كانت إسرائيل صاحبة الضربة الأولى، ولكن أغلب المراقبين ينظرون إلى ما فعلته بوصفه عملا مشروعا من أعمال الدفاع عن النفس ضد تهديد وشيك.
لم تكن إسرائيل تعتزم القتال على أكثر من جبهة، ولكن الحرب سرعان ما توسعت عندما دخلت كل من الأردن وسوريا الصراع مؤازرة لمِصر. وكان قرارا مكلفا للدول العربية. فبعد ستة أيام فقط من القتال، سيطرت إسرائيل على شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة، ومرتفعات الجولان، والضفة الغربية، والقدس بالكامل. وأصبحت إسرائيل الجديدة أكبر بثلاثة أضعاف من إسرائيل القديمة، ويُذَكِّرُنا ما حدث على نحو غريب بسِفر التكوين: ستة أيام من الجهد المكثف يليها يوم من الراحة، وفي حالتنا هذه يوم التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار.
وضعت المعركة التي دارت رحاها من جانب واحد حدا لفكرة (أو حلم عند بعض الناس) مفادها أن إسرائيل يمكن القضاء عليها. وجعل انتصار 1967 إسرائيل دولة دائمة على نحو لم تنجح حرب 1948 أو حرب 1956 في تحقيقه. فأخيرا، اكتسبت الدولة الجديدة درجة من العمق الاستراتيجي. واضطر أغلب القادة العرب إلى تحويل هدفهم الاستراتيجي من إزالة إسرائيل من على وجه الأرض إلى إعادتها إلى حدود ما قبل 1967.
بيد أن حرب الأيام الستة لم تُفض إلى سلام، ولو حتى سلام جزئي. بل كان لزاما على السلام أن ينتظر حتى اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، والتي مهدت الساحة لاحقا لاتفاقات كامب ديفيد ومعاهدة السلام بين إسرائيل ومِصر. فقد خرج الجانب العربي من هذا الصراع اللاحق وقد استرد شرفه؛ وخرجت منه إسرائيل وقد نالها العقاب والتأنيب. ويبرز هنا درس مهم: لا تقود النتائج العسكرية الحاسمة بالضرورة إلى نتائج سياسية حاسمة، ناهيك عن السلام.
بيد أن حرب الأيام الستة أفسحت المجال للدبلوماسية، أو القرار رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. دعا القرار الذي حظي بالموافقة في نوفمبر/تشرين الثاني 1967 إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في الصراع الأخير ــ ولكنه أثبت أيضا حقها في الحياة ضمن حدود آمنة ومعترف بها. وكان القرار حالة كلاسيكية من الغموض الخَلّاق. فقد قرأه أناس مختلفون على أنه يعني أشياء مختلفة. وهذا من شأنه أن يسهل تبني القرار، ولكنه يزيد من صعوبة العمل على تنفيذه.
ليس من المستغرب بالتالي أن يظل السلام غائبا بين الإسرائيليين والفلسطينيين، على الرغم من عدد لا حصر له من التعهدات الدبلوماسية التي بذلتها الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، والأمم المتحدة، وأطراف الصراع أنفسهم. إحقاقا للحق، لا يمكننا إلقاء اللوم على القرار 242 عن الحالة التي آلت إليها الأمور حاليا. فالسلام لا يأتي إلا حينما يصبح الصراع جاهزا للحل، وهو ما يحدث عندما يكون زعماء الأطراف الرئيسة مستعدين وقادرين على تقبل التسوية والحلول الوسط. وإذا غاب هذا الشرط فلن يكون أي قدر من الجهود الدبلوماسية التي تبذلها أطراف خارجية حسنة النوايا كافيا للتعويض عن غيابه.
غير أن حرب 1967 خلفت برغم ذلك تأثيرا هائلا. فقد اكتسب الفلسطينيون هوية وبروزا دوليا لم يتسن لهم الحصول عليه حينما كان أغلبهم يعيشون تحت الحكم المصري أو الأردني. ولكن ما عجز الفلسطينيون عن توليده كان الإجماع بين بعضهم بعضا في ما يتعلق بقبول إسرائيل، وإذا قبلوا بها، فماذا يمكنهم أن يتخلوا عنه لكي تصبح لهم دولة خاصة بهم.
ربما يتفق الإسرائيليون على بعض الأمور. فقد أيدت أغلبيتهم إعادة سيناء إلى مِصر. وكانت حكومات متباينة على استعداد لإعادة مرتفعات الجولان إلى سوريا بموجب شروط لم توف قَط. كما انسحبت إسرائيل بقرار أحادي من غزة ووقعت معاهدة سلام مع الأردن. وكان هناك أيضا اتفاق واسع النطاق على أن القدس ينبغي أن تظل موحدة وفي يد إسرائيل.
ولكن الاتفاق توقف عندما تعلق الأمر بالضفة الغربية. إذ يرى بعض الإسرائيليين أن هذه الأرض كانت وسيلة لتحقيق غاية، ومن الممكن إبدالها بسلام آمن مع دولة فلسطينية مسؤولة. ويرى آخرون أنها كانت غاية في حد ذاتها، لاستيطانها والاحتفاظ بها.
هذا لا يعني غيابا كاملا للتقدم الدبلوماسي منذ عام 1967. فقد أدرك كثيرون من الإسرائيليين والفلسطينيين الواقع المتمثل في وجود الطرف الآخر والحاجة إلى شكل ما من أشكال تقسيم الأرض إلى دولتين. ولكن في الوقت الراهن لا يبدي أي من الجانبين الاستعداد لحل ما يفصل بينهما من قضايا. وقد دفع كل من الجانبين، وما زال يدفع، ثمن هذا الإعراض.
فإلى جانب الخسائر المادية والاقتصادية، يظل الفلسطينيون يفتقرون إلى دولة خاصة بهم والتحكم في حياتهم. ومن الواضح أن هدف إسرائيل المتمثل في إنشاء دولة يهودية ديمقراطية آمنة ومزدهرة يظل مهددا بفِعل الاحتلال المفتوح والواقع الديموغرافي المتطور.
في الوقت نفسه، تحركت المنطقة والعالَم في الأغلب إلى الأمام، وأصبح جُل الاهتمام منصبا على روسيا أو الصين أو كوريا الشمالية. وحتى إذا حَلّ السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فلن يُفضي هذا إلى السلام في سوريا، أو العراق، أو اليمن، أو ليبيا. فبعد مرور خمسين عاما منذ اندلعت حرب دارت رحاها ستة أيام، بات غياب السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين جزءا من وضع راهن معيب أصبح مقبولا ومتوقعا في نظر كثيرين.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة