حكيم عنكر
أين هي مذكرات المثقفين العرب، مفكرين وكتاباً ورسامين وروائيين وأهل مسرح وشعراء ومسيرين للشأن الثقافي العام؟ أين هي تلك الشهادات التي يقدمها هؤلاء وهم في خلاصة تجربتهم الحياتية والفكرية عن العلاقات الملتبسة للمثقف برجل السياسة وصانع القرار أو صُناعه في بلدانهم؟ وكيف عاشوا وعبروا في المراحل الصعبة التي مرت بها شعوبهم؟ وأين كانوا وكيف تموقعوا، وما هي الضغوط والأثمان التي دفعوها لتفسيح مساحات الحرية وإبداء الرأي في بلدان عاش أغلبها تحت حكم الرأي الواحد والحاكم الأوحد، وصبغت عقوداً من الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية بصباغة خاصة من لون واحد فرض شعاراً للمرحلة وصوتاً مدعوماً ومنفوخاً ضد باقي الأصوات والهوامش.
لا نجد كل هذا، وإن وُجدت بعض المحاولات، على الأقل في المغرب الذي أعرف حق المعرفة، فهي معدودة على رؤوس الأصابع، أو خجولة ولا ترقى إلى مستوى الشهادة على زمنها أو هي متناثرة هنا وهناك، وليست كتاباً مكرساً لكي يكون صورة لعصره، بحركته ومورانه، وبسكونه وهيجانه، وبخنوعه وحركاته.
كتب المفكر المغربي عبدالله العروي «خواطر الصباح» وأرادها أن تكون بعضاً من هذا القبيل، لكنها جاءت في عمقها ممهورة بطابع الفكر المتعالي. لم تقترب كثيراً من الأحداث التي جرت في مغرب ما بعد الاستقلال إلا قليلاً، ولم تسلط الضوء على اللحظات الكبرى التي عاشتها البلاد، حتى وإن كانت أهم ما كتب من تاريخ «اليوميات» المغربية على حد الآن، دون أن نغمط للرجل شجاعة إبداء الرأي والتعبير عن الموقف الصلب وبسط وجوه أخرى لحقيقة الأحداث التي عرفتها البلاد، ومرويات مضادة تنسف السائد لدى النخبة.
وكتب المفكر المغربي محمد عابد الجابري مذكراته في سلسلة شهرية اختار لها اسم «مواقف»، صدرت على مدى أشهر، وهي تجمع بين التجربة السياسية والفكرية والثقافية والحياة الخاصة، وقد أرادها منذ العدد الأول من كتيّب «مواقف» أن تكون شهادة على عصره، ومفتاحاً من المفاتيح، بيد الشباب المغربي و(العربي) لفهم خصوصيات وسياقات مغرب ما بعد الاستقلال. وقد أثارت تلك المذكرات في حينها نقاشاً كبيراً في الوسط السياسي والأكاديمي والثقافي المغربي. وربما تسببت في إحراجات حتى للتيار السياسي الذي ينتمي إليه الجابري، كما أزاحت الغبار عن أحداث مفصلية في الزمن التاريخي الجاري بالمغرب، ما تزال مفاعيلها سارية إلى اليوم.
يؤكد الجابري على أهمية «الوعي القديم» بالنسبة للمشتغل في مجال الفكر والثقافة، وهذا الوعي قادر على أن يتيقّظ في أي لحظة ويحتل مساحة الحاضر ويوجهه إلى وجهات أخرى.
وينقل في هذا الإطار حكاية عن جدته، التي كانت تحكي له محكيات من زمن مغرب القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وفي إحدى المرات توقفت عن الحكي، وخاطبت نفسها قائلة «كم أنا قديمة!».
يورد الجابري هذه الحكاية، وهو يتحدث في «مواقفه» عن مغرب يمتد إلى خمسة عقود، عاشها كلها في معترك السياسة والصحافة والفكر، وفي صلب الصراع الاجتماعي بين قوى الإصلاح في البلاد وقوى التراجع. وهو يقول في لحظات جمع المادة التي ستشكل حلقات إصدار «مواقف»، معبراً عن تلك المشاعر التي داهمته، وهو يرصد مجرى نهر التحولات التي عصفت بالبلاد «كم أنا قديم!».
ولكن، هل مسموح بـ «الكذب الأبيض» في كتابة مذكرات من هذا القبيل؟ يجيب الجابري بأنه غير مسموح حتى بهذا، لأن المنقب أو «الحافر» الذي يتهجّى الحفريات ويجمع الأشلاء والدمن الدارسة، والمزق المتنافرة، همه الوحيد هو تكوين أجزاء الحقيقة وضمها إلى بعضها البعض حتى تكتمل صورة الذي كان، المؤسس للراهن وللذي يكون.
يقول الجابري: «فـ «السيرة الذاتية» ليست مقالاً من مقالات الرأي، ولا خطاباً من خطب و»خطابات» المساجلة والحجاج، ولا دراسة لحال من الأحوال الذاتية والموضوعية، ولا نصاً إبداعياً ينسجه الخيال، ولا .. ولا… إن السيرة الذاتية أولاً وأخيراً شهادة».
*نقلا عن موقع ضفة ثالثة