عصور الأدب والتسميات المستعارة

د.عبد العظيم رهيف السلطاني

تشيع في الكتب التي تؤرّخ لعصور الأدب العربي تسميات لبعض العصور، كـ ((العصر الجاهلي))، تسمية دالة على القرنين اللذين سبقا مجيء الإسلام. ونجد: ((العصور المتأخرة)) أو ((العصور المظلمة)) أو ((الفترة المظلمة))، تسميات ملتصقة بالعصور التي تلت سقوط بغداد بيد هولاكو عام 656هـ .
فهل هذه التسميات – وما تشبهها – تحدّد تلك العصور تحديدا موضوعيا، أم هي تصف، وصفا متضمّنا حكما على تلك العصور؟! الجواب يأتي سريعا: إنّها لا تحدّد بل تصف. وهذا الوصف – وقبل كل شيء – ينطوي على خطر يهدّد موضوعية الدرس الأدبي. لِأنّ تسمية عصر ما قبل الإسلام بـ ((الجاهلي))، ليس سوى وصف غير محايد. فالجهل بمعناه العام يقف بالضد من العِلْم. وقد يُقال الجهل: بمعنى الطيش والغضب والسفه والحمق… وكلّها دلالات تأوي إلى معنى واحد، يقف بالضد من الحِلْم والحكمة. وسواء أكان الجهل هنا ضد العِلْم أم ضد الحِلْم، فكلاهما – العِلْم والحِلْم – صفة حسنة يُراد لها ضمنا أن تلتصق بتوصيف العصر الإسلامي. فقولنا ((العصر الجاهلي)) يعني إصدار حكم على العصر الذي سبق مجيء الإسلام. فوصفه بأنّه مستودع الجهل، يعلي من شأن العصر الذي تلاه. فأصل التسمية فيها تعبير عن خضوع لنظام ثقافي نابع من تصوّر آيديولوجي ديني. فما قد يصدق من توصيف ((الجهل)) على مسائل شرعية أو حياتية لا يصدق على مسائل الأدب وقضاياه. وحين يأتي الدرس الأدبي فيستخدم وصف ((الجاهلي)) ليكون اسما دالا على عصر أدبي يؤرخ له؛ يكون ذلك الدرس قد استعار توصيفا ثقافيا آيديولوجيا لا علاقة له ببنية الدرس الأدبي وأهدافه، وقد يتقاطع معه. في وقت يُؤمل فيه من الدرس الأدبي الحديث أن ينقل خطاه بوعي الموضوعية، فيعزل المؤثرات التي لا تنبع من طبيعة المدروس، وأن يحدّد بدقة ووضوح كافيين: غاية الدرس، ونطاق عمله، وحدود مسؤوليته وأهدافه. فهو يدرس الأدب مستجيبا لاشتراطات الدرس، وفضلا عن هذا فليس من مسؤوليته أن يروّج لأمر خارج غايته، ولا أن يدسّ أنفه في أمر لا يعنيه. فبصرف النظر عن تحقّق العِلْم أو الحِلْم أو عدم تحققهما في العصر الإسلامي؛ فإنّ الدرس الأدبي غير معني بهذا، ولا تناسبه تسمية العصر السابق للعصر الإسلامي بـ ((العصر الجاهلي)) ليكون أدب ذلك العصر ((الأدب الجاهلي)). فالدرس الأدبي يسعى لِأن يؤرّخ لعصور أدبية تاريخا موضوعيا، يصف الواقع الأدبيّ.
حين أُطْلِقَت تسمية الجاهلي على عصر ما قبل الاسلام؛ لم تكن المقارنة قائمة بين ذلك العصر والعصر العباسي، مثلا. وإنّما أُطلقت مقارنة بين عصر ما قبل الإسلام وعصر صدر الاسلام. والأدب في هذا العصر الأخير كان ضعيفا باردا. فالمعلقات ((الجاهلية)) ،مثلا كانت إبداعا شعريا متفوقا على شعر العصر الذي تلاه. وهذا أمر لم يخرج به النقد العربي الحديث وحده. وإنّما سبق للنقد العربي القديم أن تحسّسه، فكان الأصمعي علامة فارقة بهذا الخصوص. فأصدر هذا الحكم الشارح لتراجع مستوى الشعر في عصر صدر الإسلام مقارنة بشعر العصر الذي سبقه. بل ،أيضا، حاول تفسير ذلك التراجع. لذا قال قوله المشهور المفسِّر: إنّ الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان. وهنا يتضح مقدار الخطأ المعرفي الذي يرتكبه الدرس الأدبي حين يسلك الطريق الخطأ، فيستعير تسميات/أوصاف لا صلة لها بطبيعة بنية ذلك الدرس وطبيعة أهدافه. وهي مفارقة في منطق المعرفة أن يتبنى درسٌ تسمية هي ضد نتائجه التي توصل إليها.
لذا نقول: إن شئنا الدقة العلمية في تحديد العصر الأدبي، فلنذهب مع تسمية: ((عصر ما قبل الإسلام))، ويكون الأدب فيه: ((أدب ما قبل الإسلام)). فهذه تسمية حيادية موضوعية، تتخذ من مجيء الإسلام مُحدِّدا فاصلا بين زمنين. ثم يُترك أمر تشخيص ما تحقق من أدب وتحديد محتواه ومستواه ودلالته… للدرس الأدبي الموضوعي.
وفي قولنا: (( العصور المتأخرة ))أو ((العصور المظلمة))/ ((الفترة المظلمة)) أو ((عصور الانحطاط))؛ توصيف لتلك العصور وليس تحديدا لها. فكلمة ((المتأخرة)) حين نصف بها عصورا أدبية تدل على التراجع الأدبي، في تلك العصور. وكلمة ((المظلمة)) توصيف يتجاوز دلالة التأخّر إلى دلالة أكثر إمعانا في توصيف الحال بالانهيار. وفي هذه التوصيفات: ((المتأخرة)) و ((المظلمة)) و ((الانحطاط)) تحضر الحمولة ((الآيديولوجية)) ،أيضا، وهي مستعارة من تصوّر ثقافي يصف العصور من خلال ربط توصيفاته ((تسمياته)) بانتهاء حكم دولة الخلافة الإسلامية. فيصبح ما حصل بعد انتهاء حكم الخلافة الإسلامية هو بالضرورة تأخّر وظلام وانحطاط. ومثل هذا الحكم لا يناسب طبيعة الأدب. فالأدب لا ينهار متزامنا مع انهيار نظام الحكم!!. فتحوّل نظام سياسي قد يكون سريعا فيحصل في يوم أو أيام معدودة، ويتحقق بانهيار الجيش الذي يحميه. ولكن تحوّل الأدب يتحقق في أجيال متعاقبة لا بأيام معدودة. وكثيرا ما حصل في تاريخ الأدب أن وجدنا ازدهارا في الأدب في ظل واقع سياسي مضطرب ومتردٍ.
لذا هو((العصر الوسيط))، إن شئنا احترام موضوعية الدرس الأدبي، فهذه التسمية تحدد هذا العصر، لا تصفه بأوصاف مستعارة. فـ ((الوسيط)) هنا تدل على عصر يتوسط بين العصر العباسي والعصر الحديث. والأدب فيه هو ((أدب العصر الوسيط)). فنتجاوز بذلك أمر توصيفه، وندع ذلك التوصيف للدرس الأدبي، الذي يستند دائما إلى رؤى نسبية، ونظريات دينامية متحركة، وقد يكشف البحث نتائج جديدة وتصورات أخرى عن هذه العصور، وقد لا يجد دقة في أن مجمل الأدب في تلك القرون ينسجم مع وصف التأخّر والظلمة والانحطاط، فداخل العصر الوسيط محطّات وقرون عديدة.
إنّ خطر التسمية بالوصف لا يقتصر على التوصيف السلبي ((الجاهلي، المظلمة، المتأخرة…))، بل يشمل أيّ توصيف يتحوّل إلى اسم. فـ ((عصر التنوير))، هو الآخر تنطوي تسميته على خطر. فهذه تسمية مستعارة من فضاء ثقافي لا يخلو من أثر آيديولوجي مباشر. فهي تسمية تدعو ضمنا إلى نوع ثقافي هيمن في عصر معيّن. فالتسمية هنا أصبحت ترويجا لذلك النوع الثقافي، بأنّ ربطته بالنور، وهو قد لا يكون كذلك في الواقع. فما سمي بعصر التنوير في أوربا ،مثلا، كان موضع نقد لكبار المفكرين كماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، في كتابهما ((جدل التنوير))، اللذين لم يجدا في ((التنوير)) تنويرا حقيقيا. وإنّما وجدا فيه مفهوما هلاميا شموليا ينطوي على أوهام، تتجلى بمظاهر متنوعة. فالتنوير في النصف الأول من القرن العشرين ،مثلا، تضمن خداعا وصناعة ثقافة مهيمنة، تبيع وعي الإنسان للشركات الصناعية.
لذا نجد أن من المفيد ثقافيا ومعرفيا؛ العمل على تسويق ثقافة احترام الموضوعية والعمل عليها من خلال اللغة. فنسمي عصور الأدب بتسميات تحدّد العصور وتساعد على درسها بموضوعية، لا أن نسميها بأوصاف، مستعارة من فضاءات ثقافية محمّلة بحمولات آيديولوجية، ولها أهداف غير هدف الدرس الأدبي. فاللغة التي نستعملها ليس فقط تدل على نوع عقولنا ونوع ثقافتنا، وإنّما أيضا تربّي عقولنا وتؤثر في ثقافتنا. وفي مجال الدرس فهي تؤثّر في درسنا وفي نتائج ذلك الدرس. فحين نصف عصرا بالجهل أو التأخّر أو الظلمة أو الانحطاط أو التنوير؛ قد لا تكون نتائج درسنا بمنأى من التأثّر بهذه التسميات الواصفة. فالأوصاف في جوهرها أحكام، وهي بهذا تحمل حكما على ذلك العصر يستبق نتائج البحث الأدبي. وهذا يخل بمنطق البحث وأصول المعرفة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة