وفهِ التبجيلا

ماذا عساي ان اقول في يوم عيد الرسول الاعظم .. فقد توقدت ذاكرتي المتعبة المتربة وحنت الى تلك الطقوس التي كنا نرى فيها رعبا يجتاحنا ، ولكنها صنعت منا رقما في هذه الحياة .. صورة المعلم وهو يلوح بالعصا لمن عصى .. صور وذكريات تشدنا بقوة .. وهنا، لا انسى ابدا تلك الجملة التي وضعها معلم اللغة العربية ، طالبا من التلاميذ معرفة معناها واعرابها وقد اعطانا مهلة امدها (24) ساعة ، لنأتيه بالجواب ، وكان نص الجملة ( أنَّ الطفلُ كريمٍ)..حار الجميع بالامر ، وهم يعلمون قسوة المعلم بحق من لايعرف الاجابة .. ولكنه تدارك الموقف بعد ان رأى ملامح الخوف تطفح فوق الوجوه والابصار تشرئب صوب الخيزرانة !! .. قال لن اعاقب اليوم احدا ،انما ، من يعرف الاجابة سأعفيه من الامتحان ، وله عندي هدية ولكن ليست حلاوة لوزية !!.. هدأت الانفاس قليلا .. ولست ادري لم كان المعلم ، الذي مازلت اتذكر اسمه وملامح وجهه ، يصوب نظره نحوي ؟! ربما لانه رآني مستغرقا في التفكير ، فقد كنت احب درس اللغة العربية كثيرا .. ثم مالبث ان خاطبني : هل تعرف الاجابة ؟ .. ارتبكت وتلعثمت ولم احر جوابا .. اقترب مني واضعا يده فوق كتفي .. اردت ان انهض ، ولكنه لم يأذن لي بالقيام .. وقال ، غدا اريد منك الجواب !!.. فرح الطلاب كثيرا ففي هذا التكليف اعفاء لهم من المهمة العسيرة !! .. انتابني شعور بالفرح والزهو مشوب بشيء من الخوف .. قلت بشيء من الارتباك ، نعم استاد ..
عدت الى البيت ، يعتريني شيء من الهم شعر به الجميع .. سألني والدي رحمه الله : «شبيك بويه اشو ما تغديت زين ووجهك اصفر وتعبان ؟ .. شنو خاف مريض او احد ضاربك لو المعلم مأذيك ؟؟ «.. قلت لا ، ولكن السالفة كيت وكيت .. ضحك الوالد عادا القضية سهلة .. واصلت التفكير مليا .. حل الليل وران السكون .. وبقيت انا معلقا بذلك الطفل الذي سبب لي كل هذا الالم والخوف والجوع والتعب .. ولست ادري كيف اهتديت الى الاجابة في تلك الليلة الليلاء .. احسست ربما بهاتف يهتف في عقلي بالجواب الذي سجلته في دفتر الواجبات ، وشعرت في تلك اللحظة بارتياح عميق وفرح عظيم من دون ان اعرف فيما اذا كان جوابي صحيحا ام لا .. تناولت الطعام بنهم وشراهة ورحت اغط في نوم عميق .. وكما العادة اليومية استيقظت صباحا وذهبت الى المدرسة التي كنت اقصدها مشيا على الرغم من انها لم تكن قريبة من البيت .. وكان الدرس الاول هو درس القواعد .. دخل الاستاذ عبدالزهرة مصحب صاحب القامة القصيرة والنظارات السود .. كانت الانظار جميعها تصوب نحوي .. كان المعلم يلاعب عصاه ، كمن يقدم معزوفة موسيقية .. جاءني مباشرة ومن دون ابطاء .. قال : ها ماذا صنعت بالامر .. قلت : استاد حليتها .. لم يصدق قولي .. قال ارني دفترك .. وحين سقطت عيناه على ما كتبت .. اعترته نوبة من الفرح الغامر ومن دون ادني تردد انحنى علي ليقبلني بحرارة ثم احتضنني وقال انت شاطر جدا ولكن هل ساعدك احد في الحل .. قلت : لا والله استاد آني حليتها وحدي .. اخرج الرجل قلما جميلا من جيبه وقال هذا هدية لك _احتفظت به لسنوات طوال ولكن فقدته في ظروف غامضة- ثم اعطاني شيئا من الحلوى وبعدها امسكني من يدي واخذني الى الادارة وطلب من المدير ان يدعو المعلمين جميعا ، ليخبرهم بقصتي ، فانهالت علي القبل – لم تكن يومها من بينهم معلمات !!- .. كان ذلك في الصف السادس الابتدائي .. اما الجواب فكان :(أنَّ الطفلُ كريمٍ) ..ان فعل ماض بمعنى الانين والطفل فاعل مرفوع .. والكاف للتشبيه وريم هو الغزال .. بمعنى ان انين الطفل كان يشبه انين الغزال .. ذكريات وكأني اعيشها الان .. وبالمناسبة لم نكن في ذلك الزمان قد تعرفنا على الحاج (گوگل) لكي يساعدنا في الاجابة .. تحيات ومحبات وعظيم الاحترامات لكل استاذ علمني حرفا في حياتي الدراسية من الاول الابتدائي حتى يوم تخرجنا من الجامعة فنحن نقف لهم اجلالا وتعظيما في يوم عيدهم الاغر ..وما احوجنا اليوم الى مثل اؤلئك المعلمين الافذاذ الكبار ، وما احوجنا ايضا الى أن ننهض بمدارسنا ونوفر افضل الظروف لتمكين المعلمين من اداء مهامهم لكي يعدوا لنا اجيالا قادرة على البناء
قف للمعلم وفه التبجيلا … كاد المعلم ان يكون رسولا

عبدالزهرة محمد الهنداوي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة