خطبة الهندي الأحمر!

جمال جاسم أمين

(1)
هذه الخطبة افتراضية يلقيها الشاعر في بهو تأريخه ، تأريخ تصداعات روحه الموروثة و المفروضة عليه فرضا ، بالطبع يندر من يصغي لها ربما بسبب شعريتها التي تحاكي واقع الهندي الاحمر او خطبته امام الابيض المنتصر ، خطبة العربي الاحمر. نص طويل للشاعر ( عدنان حسين ) يعيدنا الى اصل الحكاية ، حكاية الهنود الحمر الذين غزاهم الأبيض ( المتحضر ) فسلب منهم ما سلب وكان من عادة الهنود الحمر اذا انهزمت قبيلة امام غزو ما لن يتركوا هزيمتهم دون خطاب ، يلقي زعيم هذه القبيلة كلمة امام المنتصر ! و هكذا ( فعل الزعيم الهندي الاحمر سياتل في عام 1855 ) حيث قال للغزاة البيض ( اذا ما بعناكم ارضنا فعليكم ان تتذكروا و تعلّموا اطفالكم أنّ الانهر إخوتنا و اخوتكم و عليكم ان تهبوها ما يهب الاخ اخاه من طيبة ) وغالبا ما تكون وصايا المهزوم أنبل من وصايا المنتصر المأخوذ بزهو القوة حد العمى. لم يتوقف هذا النص التاريخي عند حد الواقعة بل ظل قيد التداول على ألسنة الشعوب المهضومة في كل مكان. يوما ما انبثق مجددا على لسان الشاعر الفلسطيني محمود درويش عبر نصه ( خطبة الهندي الاحمر ما قبل الاخيرة امام الرجل الابيض ) و الفلسطيني المهاجر هنا معادل الهندي الاحمر مسلوب الارض و الحياة ! نحن اذن امام ( شكوى صارخة ضد القهر الاجتماعي ) امام مدونة متحركة الدلالة من الواقعة الى المجاز فضاؤها الزمن المفتوح و موضوعها القهر .
(2)
اليوم يستعيدها الشاعر ( عدنان حسين ) عبر توصيف ( العربي الاحمر ) الذي يعاني القهر ذاته لكن السؤال : هل لدى هذا المقهور ما يقوله في خطبته ؟ ام ان الشاعر تولى عنه هذه المهمة ؟ يكشف النص منذ البداية علاقته بنصوص سابقة : الخطبة الاصلية ثم نص ( درويش ) الذي توالد عنها حتى لحظة ( العربي الاحمر ) الذي صاغ ملامحه شاعر لحظة راهنة وجد ما يكفي من التطابق ليبرر الاستعارة و الاستعادة معا ، يتكئ ( عدنان ) على مقولة الشاعر الانكليزي ت . س . اليوت ( انا لا أؤمن بشعر جديد مطلقا لأنه سيكون رديئا .. الشاعر العظيم هو الذي يذكرك بسابقيه ) بالطبع ان مثل هذا الرأي يحتاج الى مداولة أوسع لأنه يمس جوهر فكرة الابداع التي يراد لها ان تنبثق بكرا بلا سابق ويمكن فهم مقولة ( اليوت ) على وجه اخر لا يمس هذا الجوهر بل هو يقصد نوعا من الشعر الملحمي القادر على استبطان تجارب سابقة وصهرها في مصهر جديد ، نعم هناك الكثير من هذا النوع ولا يقلل من قيمته الابداعية و هنا ربما نقصد التناص الذي نتداوله نقديا باعتباره امكانية استبطان نصوص في نص و الامر على هذا الوجه لا ضير فيه اما الاستنساخ او الاستذكار المقصود بلا إعادة انتاج فهو تكرار لا جدة فيه .
( 3 )
يصوغ ( عدنان حسين ) مدونته الجديدة و كأنها على لسان ( سياتل ) شيخ القبيلة الهندية المنهزمة :
سيد الليل و الخيل و النبيذ المشاع
دنّست فوق السهوب
في قوس قلبي
مرايا الاساطير العتيقة
لوثت ريش البحيرات الرقيقة و حقول الذرة
و سرب الهندباء
ما فهمت كلام الروح فينا
أجد ان القصيدة فنيا اقرب ما تكون الى روح قصيدة القناع التي شاعت في شعرنا الحديث فالشاعر يتخذ لصوته الشعري معادلا ما ( قناعا ) يبوح من خلاله وهو ما يفعله الان ( عدنان حسين ) في مطولته التي استغرقت مجموعة شعرية كاملة ، تتوالى بطريقة الوصايا التي يلقيها الراحل على القادم ، السليب على السالب بلغة لا تخلو من وجع الخسارة و خذلان الروح ، الامر يتعدى حدود الهزيمة العسكرية في معركة عابرة الى الانكسار الاكبر ، انكسار روح الجماعة و هزيمة وجودهم برمته وهنا تكمن اهمية الوعي الشعري الذي يهتم بالمصائر بعد ان يغادر التطريب الشكلي الى جوهر المعنى و بالطبع لا نريد للقصيدة ان تتخلى عن جمالياتها لصالح مضمونها بالمرة لأنها عندئذ تفقد وصفها شعرا بل ما نسعى له هو المهارة العالية التي تصوغ المعنى جمالا ولا تهدر شيئا من هذا المركب المتواشج : المعنى و الجمال ! اذن نحن إزاء حزمة وصايا يتركها المهزوم قبل مغادرته على ارضه التي ضاعت :
هذه الرياح
قداس روح الاله ، فوق الجبال تسد ثقوب العدم
في فضاءات الوجود ..
لا تهنها .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة