النهران الخالدان.. تعويذتا الوادي.. عبقرية الزمان والمكان

تواصل ثقافية الصباح الجديد نشر حلقات من كتاب: سرقة حضارة الطين والحجر للكاتب حميد الشمـري
الحلقة الثالثة
‏(وجعلنا من الماء كل شيء حي. سورة الأنبياء , الآية رقم 30 )
تحدثنا في الحلقة السابقة، عن الهواجس الاستخبارية والاستعمارية لدول: بريطانيا وفرنسا، وكانت بسبب اهمية ولايات العراق الثلاث: البصرة وبغداد والموصل. وكيف ان ولاية البصرة هي الميناء البحري الوحيد للعراق وان بغداد لكونها تتوسط العراق وكونها الولاية الرئيسة ومركز الحكم وكيف ان الموصل لكونها ميناءً تجاريا نشاطا. وكذلك تم الحديث عن الدوافع السياسية وهي بسبب وجود مجاميع عرقية من غير العرب داخل البلاد.
‏يقول عالم المسماريات أوزوالد شبنغلر(إن التطور ازدهر على تربة مناطق محددة تحديداً واضحاً وظل مرتبطا بها ارتباط النبات بالأرض (- فن الشرق الادنى القديم – سيتن لويد- – ترجمة محمد دروش)
‏تقع بلاد الرافدين بين الهضبة الايرانية في الشرق وهضبة اسيا الصغرى في الشمال الشرقي وصحراء الشام الكبرى في الغرب وإن الوادي كان نتاجا طبيعيا لوجود النهرين الخالدين: دجلة والفرات تعويذتا الوادي اللذان رسما خارطته على مر العصور وكانا العامل الحاسم في جعل فجر الحضارة الإنسانية يشرق منه وجعلا جميع الحضارات والامبراطوريات التي ولدت فيه تقع في المنطقة الضيقة المحصورة بينهما و صبغاها بسمات مشتركة وجعلا منه مستودعا للحضارة والآثار , حيث قامت على أرضه ست حضارات وامبراطوريات هي ( الحضارة السومرية , والامبراطوريات الاكدية , البابلية الأمورية , الآشورية , البابلية الكلدانية العربية العباسية ) إضافة إلى الحضارات العابرة التي مرت على أبوابه مثل الكيشية والحيثية والإخمينية واليونانية والساسانية والفرثية , ونجد أن المدن السومرية العظيمة مثل العواصم أور ولارسا وتلو وكيش ولكش وماري والمدن البابلية مثل بابل وسبار والعواصم الآشورية آشور التي تقع على الكتف الغربي لدجلة وكارتوكولتي ننورتا وكلخو- اي النمرود (كالح في التوراة) ونينوى ودور شروكين التي تقع على الكتف الشرقي لدجلة على حافات جبال المنطقة الشرقية والعاصمة (الفرثية – الساسانية) المدائن (طيسفون) ومدن الحضارة العربية الكوفة والبصرة وواسط وبغداد والرقة وسر من رأى نجد أنها جميعا مدن نهرية نبتت ونشأت على متون النهرين الخالدين لتسهيل عملية اتصالها مع بقية المدن النهرية الاخرى حيث تمد أوردتها وشرايينها إلى كتف النهر لتشرب الماء وتنمو وتعطي زرعها وثمرها وكانت محاولة السيطرة على هذين النهرين العنيفين وتحدي الانسان لهما هي التي ‏أعطت جميع هذه الحضارات سماتها الخاصة والمشتركة , وكانت أبرز السمات هي صراع الإنسان الرافديني للبقاء أمام سطوة النهرين واستغلالهما لصالحه في الزراعة واستصلاح الاراضي القاحلة والصيد والنقل والتجارة المتبادلة مع المراكز الحضارية في الخليج العربي والبلدان المتصلة بالوادي تجاريا كالبحرين وعمان وإيران وباكستان وأفغانستان وتمكنه من إنشاء السردود ومنظومات الري وفتح القنوات لجر المياه لإحياء أماكن شديدة القساوة وبعيدة عن النهر واختيار نمط الحياة الزراعية والاقتصادية والتجارية والدينية والفنية والأدبية وبناء العواصم والحواضر والعيش في وحدة متماسكة تضم الإنسان والماء والطين والدين والفنون والتي انتهت إلى نهاية مجيدة تمثلت بانتصار الإرادة والعقل (الشرط الاساس للإبداع) على فوضى الطبيعة , وقد استطاع الانسان الرافديني بجهوده الاستثنائية ان يجعل من هذه الارض التي كانت تعاني من القحل ارضا زراعية خصبة مروية بمياه النهرين التي جلبها من بعيد وخدمها وجعلها تغتسل وتنزع ملوحتها بفتحه قنوات التصريف (المبازل) .
‏ويلتحق طبيعيا وجغرافيا بهذه المنطقة الأراضي الواقعة جنوب شرق سوريا ( سهل ماري وسهل براك) المتكونة من ترسبات نهر الفرات , وجنوب غرب إيران ( سهل الاحواز و سهل سوسة) المتكونة من ترسبات نهر الكارون ومنطقة عيلام وجميعها تعتبر من الناحية الجغرافية امتدادا طبيعيا لهضاب وسهوب وسهول بلاد الرافدين , ومرتبطة ثقافيا وحضاريا بمقومات حضارته حيث تتوحد أراضي هاتان المنطقتان مع ارض الوادي شكلا ومضمونا لتشكلا معا وحدة جغرافية وتضاريس متصلة غير معقدة ووحدة حضارية يجمعها قلب نابض واحد هو مجرى النهرين الخالدين وعمود فقري واحد، هو الدين والشعائر وإطار خارجي واحد هو الفن الرافديني الذي ظل مرتبطا جغرافيا بالأرض والنهرين ارتباطاً وثيقاً مؤثرا بما سيأتي من فنون الحضارات اللاحقة.

‏حضارات أنجبها زواج الماء والطين
‏استبدل سكان شمال الوادي سكنهم البدائي فأغلقوا كهوفهم التي كانت من صنع الطبيعة وخرجوا إلى العراء متجولين باحثين عن قوت يومهم يجمعون الثمار والحبوب من هبات الطبيعة وبعد استخدامهم للحجارة في صنع اسلحتهم حيث صنعوا الرمح والهراوة وطاردوا الحيوانات واصطادوها واصبحوا يأكلون طعاما متنوعا من النبات واللحم ويجمعون العسل ومجتازين المسافات والمفازات وناصبين خيامهم البدوية الرعوية اينما حلوا ومدوا حبالها وثبتوا اوتادها بالمطارق الحجرية واختاروا حياة الترحال ضاربين الآفاق في الوادي لعشرات الآلاف من ‏السنين متنقلين في السهول الواسعة مختلطين بشعوبها وقبائلها ثم انحدروا معهم إلى جرمو(سبعة الاف سنة ق م) وحسونة والأربجية والثلاثات والصوان ( 5500- 5800 ‏ق م)
حيث استبدلوا خيامهم الرعوية وبحثهم الدائم عن ابار الماء ببناء بيت ثابت ودائم من الطين والحجر غير المهندم ليحميهم من البرد والحر والمطر والرياح والعواصف وجعلوا يهندسون مأواهم وجعلوه مريحا له باب وشباك وسقف مرتفع وموقد نار لا ينطفئ لصنع الطعام ليلائم حياة الاستقرار مكونين نواة اولى القرى الزراعية البسيطة متخلصين من سطوة الطبيعة وعطانها غير الدائم وكانت تسكن هذه القرى القبيلة الصغيرة الواحدة ذات العلاقات الاجتماعية والإنسانية المترابطة والمتكافلة وفي هذه القرى تحولوا من اناس متوحشين الى اناس استأنستهم الطبيعة فقد ( حلت القريةُ محل القبيلةَ واصبحت هي التنظيم الاجتماعي حيث اقامت لنفسها حكومة بسيطة – ديورانت) – وبدأوا يستجيبون لمتطلبات المعيشة معتمدين اسلوب الاكتفاء الذاتي وبدأ سلطان الانسان على الطبيعة يأخذ شكلا ثابتا مستقرا حيث بدأوا يتفاعلون معها باسلوب انتاج غذائهم . واستجابة للتحديات التي كانت تجابه الانسان الرافديني وحاجته للقوة الجماعية فقد بدأ بتجميع قراه الطينية البسيطة الى بعضها في اراضي ذات تربة غرينيه تجود بالعطاء بسهولة حيث تطورت هذه القرى الى مدن زراعية صغيرة , و انتقل الرافديني من دور جمع القوت من البرية الى دور واسلوب الانتاج الزراعي والحيواني والصيد البري والنهري وتدجين بعض الحيوانات واستأنسوا اولا الاغنام والماعز والخنزير الكلب والحمر الوحشية والابل والخيول ( ديورانت) . ودجنوا حبوب الحنطة والشعير وصنعوا الخبز والفخار وانتعلوا احذيتهم . وكان تدجين الحيوانات والحبوب بمثابة اطلاق لساح الانسان من قيود الطبيعة وتبعيته لها حيث قام بسجن الحيوانات الداجنة واصبحت تحت تصرفه بمثابة مخازن للحليب ومشتقاته واللحوم الطازجة , وبدأوا يدفنون موتاهم في باحة البيت ويحتفلون بتكريمهم مقدمين لهم الأضاحي والنذور والتمائم على شكل تماثيل صغيرة يصنعونها في بيوتهم من الطين وفي هذه القرى بدأت الشعائر الدينية البدائية حيث بدأ الرافديني يعنبر عن نفسه بإيقاعات منتظمة معبرا عن لحظات الفرح والنصر تطورت مع القرون من الحركات البدائية الى الحركات الايقاعية الجماعية وكان ذلك بداية فن الرقص التعبيري . واصبح الرافديني ينسج ملابسه ويطهو ويختار طعامه المفضل . ولاقتران الديانة الرافدينية في بداياتها بالنظافة والتطهر فقد بنى المرحاض في باحة بيته (لم تعرف اوروبا المرحاض في البيوت حتى قصور ملوكها الا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث كانوا يقضون حاجاتهم في اواني ويفرغونها في مكبات في الشوارع ويحق لنا الان ان نقارن بين الحضارتين الرافدينية والغربية مع احتساب الفارق الشاسع بينهما‏, وبسبب خوفهم من غوائل الطبيعة ولأن حياتهم كانت ملينة بالأخطار فقد بدأوا ينسجون الخرافات والاوهام والاساطير الشفاهية وصنعوا اولى معبوداتهم وادواتهم ومعداتهم من الطين المفخور والحجر يتضرعون اليها لتحميهم وتحمي مزروعاتهم من الحرائق و ماشيتهم من الافتراس والامراض وبعد ذلك التاريخ بألف سنة انحدرت القبائل الرافدينية من سكان القرى الصغيرة مع النهرين يسوقون امامهم قطعان ماشيتهم وحيواناتهم المدجنة جنوبا الى اريدو والوركاء و نفر وكيش واور فوجدوا شعبا مستوطنا في المكان في الاهوار وحافات المياه هو الشعب السومري الذي كان قد بنى اقدم مستوطناته هناك .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة