حسن خضر*
يشمل حق تقرير المصير الحق في الاتحاد أو الانفصال، وهذا الحق مكفول في المعاهدات والقوانين الدولية ذات الشأن، ويحتل مساحة بارزة في نظريات وفلسفة السياسة ذات الصلة بالقومية، ونشوء الدول، والمفاهيم المعتمدة والمحتملة لتعريف الأمة، والإقليم، والشعب.
وفي سياق كهذا يملك الأكراد مقومات اللغة، والأرض، والثقافة المشتركة، والذاكرة التاريخية، وهي المقوّمات نفسها التي كانت على مدار عقود، وما تزال، هدفاً للانتهاك والتصفية من جانب الكيانات الدولانية التي تقاسمت الأكراد شعباً وأرضاً في سورية والعراق وتركيا وإيران.
هل شكّل الأكراد، في كردستان الكبرى كياناً سياسياً واحداً وموحّداً في يوم من الأيام، يبرر الحق في المطالبة باستعادته؟ ثمة اجتهادات كثيرة تندرج كلها في باب «الأمة المُتخيّلة» بتعبير بندكت أندرسون.
وهذا الباب لم تنج نـزعة دولانية من ضرورة الولوج فيه، وأحياناً الغرق في ما ينفتح منه على متاهات، وقد بز العرب، في الأزمنة الحديثة، غيرهم في لعبة الباب والمتاهات.
ومع ذلك، هذا السؤال، وما يدخل في حكمه، إشكالي، وتجريدي، وفائض عن الحاجة، وبلا قيمة سياسية في الواقع، المهم أن الأكراد كانوا دائماً في الإقليم، وأن نـزعتهم الاستقلالية تجلّت بقوّة في زمن تشكّل الدول والقوميات، وقد خاضوا معارك خاسرة كثيرة، ودفعوا ثمناً باهظاً، وأصبح كلاهما أي المعارك الخاسرة والثمن جزءاً من الذاكرة المشتركة، ومصادر الهوية السياسية.
والمهم، أيضاً، على مدار قرن من الزمن أن بين الأكراد السوريين والعراقيين والأتراك والإيرانيين من كان جزءاً من الحركة الوطنية الاستقلالية في هذه البلدان، واعتنق هويتها.
أرادوا أن يكونوا عراقيين وسوريين وأتراكاً وإيرانيين صالحين، لكن الكيانات السياسية الدولانية، التي أرادوا التماهي معها لم تكن دولاً لكل مواطنيها، ولم تقم على مبدأ المواطنة.
ومن المؤسف أن الأنظمة القائمة في بلدين عربيين هما العراق وسورية نكّلت بهم باسم عروبة وهمية ومتوهَّمة.
يُروى، مثلاً، أن طارق عزيز، وزير خارجية صدّام، قال لأحد زعماء الأكراد: «ليس لكم من حق في كركوك سوى البكاء عليها».
لا يحق لأحد أن يقول كلاماً كهذا، وبالقدر نفسه، كان «المفكر العربي»، الذي يشتغل في خدمة المشيخة القطرية الآن، عاجزاً في زمن دفاعه عن نظام آل الأسد، باسم العروبة والقومية، عن إدراك حقيقة أن النظام الذي يدافع عنه ينكر على بعض مواطنيه الحق في المواطنة.
وبالمناسبة المشيخة القطرية تنكر على بعض مواطنيها الحق في المواطنة، أيضاً.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعراق، انفتحت طاقة في الأفق، بعد هزيمة نظام البعث الصدامي، وخروجه مدحوراً من الكويت، في حرب الخليج الأولى، واتسع حجمها بعد الإطاحة بالنظام نفسه في العام 2003.
واليوم، تبدو الطاقة واسعة إلى حد كبير، ويبدو أمل الأكراد العراقيين في الاستقلال بإقليم يخصهم قريب المنال أكثر من أي وقت مضى.
وينبغي الاعتراف بأنهم قاموا بواجباتهم المنزلية على أكمل وجه، فالمناطق الكردية في العراق، هي الأكثر أمناً واستقراراً، وقد انخرط القائمون عليها في مشاريع تنموية، وفي إنشاء البنى الإدارية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، وحتى العسكرية، الكفيلة بتمكين مشروع الدولة من الإقلاع. وبالقدر نفسه نجحوا في جسر ما بين تنظيماتهم السياسية من خلافات، في العلن في الأقل، وتجنبوا إثارة مخاوف دول مختلفة في الإقليم والعالم.
ولعل في هذا ما يبرر ردة الفعل الضعيفة من جانب القوى المعادية لنـزعتهم الاستقلالية، بعد دخول كركوك، التي طلب منهم رئيس الوزراء العراقي نفسه التدخل لحمايتها من الغزو الداعشي.
لن يخرج الأكراد من كركوك، ومن المرجّح أن تكون نتيجة الاستفتاء فيها لصالحهم، وفي هذا ما يقرّبهم من هدف الاستقلال.
بيد أن الاستقلال لا يتحقق لأن شعباً بعينه يريده، ويدفع من دمه ما يبرر الحصول عليه، يتحقق الاستقلال عندما يتمكن الباحثون عنه من الحصول على موافقة قوى كبرى في العالم، وعلى موافقة دول ذات صلة في الإقليم. وبهذا المعنى فإن لاستقلال الأكراد في كردستان العراقية أبعاده التركية، والإيرانية، والسورية، والأميركية، وهذا ما سيتجلى في وقت لن يطول.
وكما يبدو سؤال الأمة المُتخيّلة فائضاً عن الحاجة، فإن الكلام عن العراق الموّحد ليس فائضاً عن الحاجة، ولكنه يشبه النفخ في قربة مقطوعة في عراق المظلومية السنية، التي تبرر الغزوات الداعشية، والهيمنة الشيعية، التي تبرر المصالح الإيرانية.
لا يحق لأحد لوم الأكراد إذا ما اغتنموا الفرصة في تحقيق حلم تملكهم منذ زمن بعيد، وربما كانت مطالبهم في وقت مضى أقل مما يمكنهم تحقيقه الآن، وقد اقتربوا من نهاية الشوط.
بين الفلسطينيين والكرد بعض أوجه الشبه، فقد حُرم هؤلاء وأولئك من الحق في تقرير المصير لأسباب لا تتعلق بقدرتهم على التضحية، بل بصعوبة تحقيق الأحلام الوطنية في عالم بلا ضمير، يتقاسمه الأقوياء، حتى وإن كانوا على باطل، ويخسر فيه الضعفاء حتى وإن كانوا على حق.
إذا كان الاستقلال ما يريده الأكراد، فهذا ما يستحقونه، وما ينبغي تأييده.
*ينشر بالاتفاق مع جريدة الايام الفلسطينية