الإعلام.. محاولة في تخيّل المستقبل

 ميثم الحربي *

مُنتهض

يُقال إن الاعلام محرقة. ويُشار بذلك إلى ضرورة توافر موادّ النّشر في جوانب المقروء والمسموع والمرئي. ولكن الإعلام اليوم ينتقل من حاوية للمحروق إلى مُصدّرا للحريق. وخصوصا في ما يتعلق بتداول الأحداث على الساحة العراقية التي لم يهدأ فيها ملفّ الأمن إلى الآن. ولا يتعلّق الموضوع هنا بخبرة الخبرة بل بخبرة الأجندات والميل القلبي لهذه الجهة أو تلك. حيث باتت الأجندات وليس الإعلام هي التي حلت محل الحدث ووجهت زواياه الحادة. ولا تسقط تلك النيران إلا على رأس المُستهلك المُتهالك. يقول المثل العربي: الرّائد لا يكذبُ أهلَه. ويضرب ذلك للذي يرود مُتسقّطا الكلأ والماء ويتوثق منهما لينبيءَ أهله بهجران المكان الجديب والانتقال إلى خرير الغدران والعشب. في إعلامنا العربي كل من يستمع لكلام الرّواد عليه أولا التوثّق منهم فقد صار من المعروف أن يودي الرّائد بكل أهله المتابعين في مساقط النيران والفتن والحروب الأهلية. غالبية وسائل الإعلام لها أجندة. حتّى الاستقلال هو أجندة. ولكن. كل الأمور تكمن وراء هذه الـ «لكن». ويقال أيضا أن الإعلام العربي يحتاج إلى مراجعة. يقال ذلك في وضع يتطلب مراجعة للوضع القيمي برمته. هل الأمر سهل؟ لقد بتنا على مقربة. ولم يبقَ لنا سوى أمر المراجعة هذا. وتكون المشكلة اليوم في المراجعين أنفسهم في مجال إعادة الاعتبار للاعلام كجناح ترتفع عليه حرية التعبير، وتوافر المعلومة وتداولها بلا سمّ أو عسل تحت غطاء اللعب اللغوي الممهور بالنوايا والتّربصات الخطيرة والميول الذاتية. في منطقتنا العربية الغنية بالثروات يكاد ينعدم ممول المؤسسات الذي يجعل المؤسسة تسبح بالضد من تيار المستنقعات والمضاحل الكثيرة التي تحيطنا من كل صوب. إن الإعلام العربي اليوم يناقش أعقد مشاكلنا العربية وأعوصها بنوع من عدم الجدية التي تم الاعتياد عليها. لا يمكن تبرئة مؤسسة. ويمكن تبرئة أفراد. وماذا يقدر أن يفعله الأفراد أمام رياح المؤسسة العربية العاتية؟ هناك يأس عارم. وربما هو الطريق الوحيد للأمل. هذه حكمة شاعرية. لم تعد تنفع أمام الواقعيين «المُحترمين». هم يحبون الواقع. لذلك يمتلكون حكمتهم الشاعرية الخاصة. قد نسميها شاعرية الواقع. وقد نسميها غير ذلك. في هذا المقال نقف عند عدة وجوه من إعلامنا العربي، ونضيء جملة من زوايا قديمة جديدة تمثل إشكالات في طبيعتها أو نقاط للذكر أو التذكير وتتعلق بمحطات..»الاجترار. تحرير التحبير. أعمدة. محاكاة أم تقليد؟. وزراء إعلام عرب. جائزة الإعلام الاجتماعي. الإعلام المحلّي». وكل ذلك يتعلق بما عليه حال منظومة الإعلام بشكل عام الذي يمكن تسجيل ملاحظات حوله في ضوء تلك العلامات المذكورة.

ونقول أيضا إنّ حدث دخول داعش إلى الموصل أدى إلى زيادة الارتباك الاعلامي ومحطات التغطية. وقد شابه هذا الارتباك ذلك التخبط والارتباك الذي حصل مع أحداث كبيرة مرت مثل مواجهة حزب الله إسرائيل ومعارك نهر البارد، وقضية الربيع العربي وتصدعاتها في مصر، والبحرين، وأخيرا ما يحدث حاليا في كل من سوريا والعراق من مواجهات سياسية وميدانية على الأرض. ويبقى الحدث الدولي الطاغي يتعلق بالمناقشات أو المناوشات الدائرة المتعلقة بالملف النووي الإيراني ومسألة التقاطب الحالي المبني على انقسام المحاور السياسية واستتباعاتها دوليا وإقليميا. كما تجدر الإشارة إلى عملية استثمار الاعلام لمآسي الشعوب النازحة على الأرض من جراء الحروب وانتشار السلاح ولغته الفتاكة التي تكشف الشح القاتل للحلول السياسية التي تغطي على جهودها لعلعلة الرصاص والقنابل والتفجيرات ومطاعم الحروب المتنقلة التي تقودها التنظيمات الارهابية المدعومة بالاموال والسلاح والتبريرات الثقافية الماهرة في عزل الحقائق عن الجمهور وتكريس الخنادق بين الجهات والفئات والامتدادات الطائفية والقبلية.

إن الإعلام العربي يمكن أن نسميها «الرجل المريض» الذي يتفسخ داخل المنطقة بسبب غياب العلاج بعدما فات كثيرا أوان زمن الوقاية. وكل ذلك مرتبط بمؤسسات أخرى ينطبق عليها الحال نفسه. وهو العناد القاتل الذي لا يريد فهم رغبة الأجيال وتطلعاتها في الاندراج في تشنجات القرن الحادي والعشرين ومتطلباتها التي تكبس على الأفق. وتتعلق الإشكالات أيضا في طريق معالجة القضايا العربية التي حساسة من زمان قديم من قبل هذه المؤسسات الهرمة التي شاخت نهائيا لكنه عنيدة في التشبث على عصاة قد أكلها النمل ونخرها الزيف والكذب والخداع وكل ما ينتمي إلى قواميس النهاية.

مازال مؤسسة الإعلام العربي التي لا تريد أن تتغير ممعنة في تداولها لمفردة «التغيير». وقد ناب هذه المفردة كما حال المفردات الأخرى الكثير من العطب والزوال والاستعراض. وعلى الجانب يبرز اليوم «الإعلام الانتحاري» حيث منابر وشبكات الجهاد تتناسل وتفرض نفسها كواقع مُقنع لكثيرين من الذين نسميهم «الُمغرر بهم» فهم الجمهور المباشر لنوافذ هذا النوع من الإعلام! 

اجترار

بعد لحظة ما عرف بـ»الربيع العربيّ»، شاع الحديث ورصفت المانشيتات حول مستقبل هذه المجتمعات. ولم يرتفع بعد الأحداث التي ألمت بالعراق ودول المنطقة السؤال بشأن مستقبل منظومة الإعلام العربية. كل شيء بدا قابلا للتغير. حتى نوع المآسي التي تضرب هذه البلدان. والإعلام العربي مازال بعيدا كل البعد عن المجتمعات التي اكتشفت ألاعيب.. التعبئة، وتزويق طلة السلطة العربية الشمطاء، والدرن التحليلي الذي يدير دفته كتبة الامتيازات الغاطسين في عسل خزائن الأموال القادمة من وبر الفرق الناجية. للإعلام العربي إسهامته الجيدة في الولولة على الهزائم والإبقاء على الانحلال القيمي والأخلاقي كما هو. إن لم يزد عليها من الشعر بيتا.

تحرير التّحبير

ولقد أطاح الجهد الوصفي الذي يقدمها الإعلام بكل القيم والشحنات التي تختزنها مفردات من قبيل.. الثورة، والحيادية، والحقيقة، والمعلومة. بعدما حلّت كراريس الأجندات محلّ عمليات إنتاج الأخبار والتقارير والتحليلات. وبات المتابع يتنقل بين أدغال وسائل الإعلام ليس من أجل الوقوف على المعلومة بل من أجل الاطلاع على ميولها التي تتقيد بطبيعة التصنيع والبث وغاياتهما. ويأتي ذلك وسط كل الصخب المرنان الذي يتراشق وهو ينفخ الأوداج ويلقي وصاياه النّبيّة التي تريد بكل نبل توخي الدقة ورسم الأحداث بصورة مقاربة لما يجري على الأرض!

أعمدة

هل يوجد كتاب أعمدة مستقلّون؟ لقد اتسعت خارطة الأجندات واضطرب الشكل الروحي لمجتمعاتنا وبات من السهل بيع المُشترين الكثير من بيادر الكلام وعددا أكثر من البوصلات التائهة. فكل ما يتوافر هو رصف الإنشاء وإعادة تكرار الثلاثمئة كلمة نفسها كل يوم. وما يندر باق على ندرته. وبدو أنه سيظل مغلقا على رتابة الندرة، ومحاصرا بساردي الجدب، ومروجي الضباب.

محاكاة أم تقليد؟

العمل في مؤسسة الإعلام العربي قائم على تمثل المؤسسات الغربية الأقدم في التجربة. وقد استمر هذا التمثل تمثلا مباشرا ابتعد عن المحاكاة واستسلم على عبادة التقليد. حيث استعان العالم العربي بالخبرات الغربية وبقي في أفق الاستعانة وعندما تم انتهاء سحر تلك المؤسسات الغربي حين تعاملت مع عملية التصدع الكبرى بعد موجة الربيع العربي بانَ الهيكل العظمي لمؤسسة الإعلام العربي. فانكفأت إلى كهف الأجندات بشكل مفضوح ومرتبك حيث زال الثلج وظهر المرج. وأيّ مرج!

وزراء إعلام عرب

تجري اللعبة أن يتواضع وزراء الإعلام العرب في كل اجتماع على الالتزام بوثائق استرشادية، أو ملزمة، أو توصيات. كما يتواضع هؤلاء الوزراء كذلك على نقضها حجرا حجرا. ربما لأنها ليست بمقدسة أو كعبة. وفي كل مرّة يتراشقون في كيل الاتهمات إلى بعضهم لأنّ الانقسام الموجود على الأرض بين فريقين: وزراء إعلام إرهاب، ووزراء إعلام للمآسي. ويبدو الاتفاق الوحيد الذي يخرجون به في كل دورة واجتماع هو أنّ يبللوا وثيقة» مبادئ تنظيم البث والنشر» ويشربوا ماءَها على مرأى ومسمع من المنطقة العربية.

جائزة الإعلام الاجتماعي

بتاريخ الرابع عشر من حزيران 2014. أطلق حاكم دبي محمد بن راشد آل مكتوم «الجائزة العربية للإعلام الاجتماعي» في مسعى يقام كل عام. وكان المهم هو الحديث الذي يكشف أسباب إعلان مثل هذا النوع من الجوائز حيث ذكر آل مكتوم:» أن وسائل الإعلام الاجتماعي أصبحت جزءا من الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في المنطقة والعالم، ومؤثرا أساسيا فيه ومساهما رئيسا في صنع أحداثه، وستضم 20 فئة نشطة على مواقع التواصل الاجتماعي تتنوع ما بين الحكومية، والخاصة، والفردية.. إضافة لاختيار سنوي للشخصية الأكثر تأثيرا على شبكات التواصل..»

ومن المُلاحظ أنّ سكان مواقع التواصل الاجتماعي الفرديين باتوا مؤثرين أساسيين في صنع الأحداث وخلق الأفكار بطريقة مغايرة عن الجمود وخيوط العنكبوت والغبار الذي يفترس المؤسسات الاعلامية الرسمية العربية.

ومن الملاحظ كذلك أن وسائل البث يداهمها خطر الانكماش مالم تُذيّل تنبيها للمتابعين أنهم سيتابعون التفاصيل على نوافذ «يوتيوب، وتويتر، وفيس بوك، وأنستغرام.. وغيرها من عوالم التطبيقات المتناسلة « على شاشات الكومبيوتر والهواف الذكية. حيث بات الإعلام الفردي يفرض شرطه وتأثيره سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وفي هذا الصدد يبرز مثال الكاتب الشاب السعودي «حمزة كاشغري» الذي صدر أمر ملكي باعتقاله على خلفية «تغريدات» اعتبرتها كل المنظمات المعنية بالحرية وحقوق الإنسان مندرجة في إطار «حرية التعبير السلمي» بينما اعتبرتها المملكة تجاوزا «للخطوط الحمر»، وقبل ذلك اعتقال النظام السوري العشرات من المُدوّنين.

الإعلام المحلّي

سياسيا وأمنيا واقتصاديا لم يستطع الإعلام العراقي منذ تنصيبه حارسا للـ»بوابة الشرقية» أن يلتحم بمحليته وكان صورة طبق الأصل لما يرد الإعلام العربي والجهد الثقافي المستتبع أن يكون عليه، ويظلّ. وقد كشفت الأحداث الجارية على الساحة ذلك منذ 2003 وصولا اليوم إلى حدث دخول تنظيم داعش مدينة الموصل. وقد وجدنا حدة الانقسام عندمـا احتفت الطوائف بنرجسيّتها وصار مُركّب «الخطاب الوطني» لعق ألسنة وضمادا لا يستطيع أن يتطبب به جرح البلاد الواسع والمترامـي الأطـراف والأشـلاء.

*كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة