جمال جصاني
هذه المفردة السومرية (آمارجي) تمثل باكورة الخربشات البشرية التي تصدت لرسم الملامح الاولية لـ (الحرية) هذا ما كشفته الحفريات الحديثة مدوناً على احدى الرقم الطينية والتي عثر عليها تحت انقاض ذلك التراث المنسي لبلاد الميزوبوتاميا. الحرية أو (آمارجي) والتي ارتقت بها الامم الحرة الى ذرى لم تعرف من قبل، كانت قد طرحت واحتلت مكاناً لها في جدول اهتمامات سكان بلاد الرافدين القدماء، وهي وبالرغم من الاجحاف والخذلان الذي واجهته ما زالت تحتفظ بذلك الوهج المولع بالانتصار لقضايا العدل والجمال. راية الحرية (آمارجي) حققت في شوطها المجيد فتوحات لا مثيل لها، خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث تهاوت سلطات القهر والقمع في عدد غير قليل من دول اوروبا واميركا اللاتينية وافريقيا، ولم يستثن عصفها مضاربنا التي هجرتها منذ زمن بعيد، لتطلق قوى التحرر مجدداً صوب الضفاف التي عبرت اليها جميع الامم الحرة التي دونت للبشرية جمعاء ميثاقها الأجمل: الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
وفي هذا الوطن القديم الذي منح العالم باكورة المفردات الثورية، ولدت ايضاً أبشع التجارب الشمولية (جمهورية الخوف) وقد جاءت كرد فعل لتلك التطلعات الجريئة والبرامج المتقدمة التي طرحتها قوى التحرر والتقدم آنذاك. في ظل تلك الحقبة من سطوة ماكينة القهر والقمع والمسخ المتعدد الاشكال، انكمشت تلك الروح المتمردة لتحل مكانها ظلال ارواح لاتسكن ذاكرتها غير مشاهد الذل والخنوع، والذي أسدل الستار على فصلها الأخير ذلك المشهد الذي اطاح بكل ذلك الشوط من الشموخ الاجوف والخواء، مشهد انتشال (القائد الضرورة) من حفرته الأخيرة. وهكذا وجد سكان هذا الوطن القديم انفسهم مرة اخرى أمام تحديات استعادة ملامحهم القديمة وطموحاتهم المشروعة في العيش ضمن شروط حياة تليق بما تبقى من تلك السلالات التي حفرت على جبهة الطين أول صورة للحرية. الشروع الجديد من أجل النهوض بمتطلبات التحول صوب الدولة الديمقراطية، واجه مصاعب جدية وعاش سلسلة اخفاقات متتالية، لكنها ستتلاشى بفعل الشروط والمناخات الجديدة وروح العصر المناصرة لقضايا الحرية والحداثة. المشهد الراهن يبدو متخماً بالكثير من المؤشرات التي تثير الاحباط، وهو نتاج طبيعي للاغتراب الطويل عن بركات الحرية، ولكن وفي نهاية المطاف لن يمكث في وطن (آمارجي) سوى ما ينفع الناس.