حسن خضر*:
لم أشعر بقلق، منذ هجمات 11 سبتمبر، كما حدث بعد سماع نبأ استيلاء داعش على الموصل. كان للحدث الأول تداعيات هائلة، أطاحت برؤوس، وأنظمة، ومجتمعات، ومستقبلات. وستكون للثاني تداعيات لا تقل هولاً تطيح برؤوس، وأنظمة، ومجتمعات، ومستقبلات.
الثاني سليل الأوّل، والأوّل سليل الحرب الباردة، التي انخرط فيها العرب إلى جانب الأميركيين ضد الروس، وقاتلوا فيها بالدولارات النفطية، «والمجاهدين»، وأيديولوجيا الجهاد الإخوانية الوهابية. وما بين الثاني والأوّل فرض الأميركيون قائمة مصالحهم الاستراتيجية في الشرق الأوسط: أمن إسرائيل، والنفط، وطرق التجارة العالمية، وحرية السوق. وهذا ما التزم به العرب.
التزم البعض من منطلق أن بقاء نظامه مشروط بالتزامه، فلا أحد يقول لا للأميركيين ويبقى، بل ويمكن حتى ابتزازهم بمنطق خدمة مقابل خدمة. والتزم البعض من منطلق تصفية الحساب مع أعدائه السابقين من الناصريين والاشتراكيين، والعلمانيين، وكل أولاد الحرام الآخرين.
وطالما أن لكل شيء إذا ما تم نقصاناً، وإذا كان الالتزام، في أحد جوانبه، قابلاً للتجارة والتسليع، فلم لا تكون مقاومته قابلة للتجارة والتسليع. وفي هذا برع الحكّام البعثيون في بغداد ودمشق بدرجات متفاوتة من النجاح. بل وكانوا على استعداد لتقديم خدمات للأميركيين، كما فعل حافظ الأسد في حفر الباطن، وصدام في الحرب على إيران.
وطالما أن لكل شيء إذا ما تم نقصاناً، أيضاً، جاءت الثورة الإيرانية، فأفسدت حلم النوم في العسل على الأميركيين والملتزمين. لم تكن الثورة دينية في الجوهر، ولا كان الموالي في طليعتها، لكنها سقطت، للأسف، في قبضتهم. وقد استدعى الرد عليها، علاوة على الحرب بالوكالة التي تكفّل بها الحكّام البعثيون في بغداد، استدعاء الذاكرة التاريخية ـ التي لم تخضع يوماً للقراءة الموضوعية ـ لتكريس العداء بين العرب والفرس، وبالتداعي بين ما يدعى بالسنة والشيعة.
لم تكن الحرب العراقية ـ الإيرانية حرباً بين العرب والفرس، بل كانت حرباً بالوكالة بين الملتزمين بقائمة المصالح الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، والدولة الإيرانية، التي سقطت في قبضة الموالي، ودخلت على خط التفاوض والمقايضة بشأن قائمة المصالح الأميركية نفسها، ولكن من المنظور القومي للدولة/الأمة، مُغلّفاً بلغة ومفردات الموالي.
وفي المقابل، لم يكن انخراط العرب في الحرب الباردة، والجهاد الأفغاني، ترجمة لمنظور الأمن القومي للدولة/الأمة، (فهم دول كثيرة، وبعضها لا يعرف الفرق بين الأمن القومي وأمن النظام) بل كان ترجمة لغلبة فريق من العرب على فريق آخر، وترجمة بالغة السخاء لضريبة الالتزام بقائمة المصالح الأميركية. وهذا ما فرض استدعاء الذاكرتين الدينية والتاريخية، وكلتاهما تختلف عن الأخرى، لكن إلغاء الفرق بينهما يمنح الأولوية للديني على الدنيوي، ويمكّن، في مفارقة من مفارقات العرب الكثيرة، من تحويل كيانات تنتمي إلى ما قبل الدولة الحديثة إلى نماذج تحتذى.
في سياق الالتزام بقائمة المصالح الأميركية، والرد على الثورة الإيرانية، والانخراط في الحرب الباردة، وذروتها الجهاد الأفغاني، ومع الطفرة النفطية منذ أواسط السبعينيات بطبيعة الحال، وُلد العالم العربي الذي نعرفه الآن، حيث المدارس، والمعاهد، والجامعات، ورياض الأطفال، والنوادي (وكل ما شئت) تقوم بدور أهم وأكبر وأخطر مدرسة للملاك عرفها بنو البشر على مر العصور، لتعطيل العقول، وتربية المتطرّفين.
حتى في السعودية (تخيّل، أو تخيّلي لكي لا نُغضب النسويات) يقول وزير التربية السعودي «تركنا لهم التعليم فاختطفوا أبناءنا». والصحيح أن اختطاف «أبناءنا» يُترجم يومياً على مدار أربعة عقود في عالم يمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، والصحيح، أيضاً، أن الإخوان المسلمين (الذين يقصدهم الوزير) ليسوا سوى مخلب قط، بين مخالب كثيرة، فحتى صدّام حسين، وحافظ الأسد وابنه بشّار، دمّروا التعليم على طريقتهم.
وما تعجز مدارس الملاك الأهم والأكبر والأخطر في تاريخ البشرية، عن ترجمته، يقوم به التلفزيون (وما أدراك ما التلفزيون، ولننس شيوخ الفضائيات)، فالمسلسلات «التاريخية»، و»البدوية»، و»التراثية»، التي يشاهدها الناس، عادة، في رمضان، تمثل ما عدا استثناءات قليلة (منها أسامة أنور عكاشه، ومدرسته المصرية) أهم وأكبر وأخطر عملية غسيل دماغ عن طريق الدراما، والصورة، في التاريخ الإنساني كله. لم يسبق لتاريخ أن تعرّض لهذا القدر من المكياج، والفوتوشوب، والقص واللصق، والتمثيل والتدجيل، كما حدث ويحدث كلما استدعى التلفزيون الذاكرة التاريخية والدينية، على مدار أربعة عقود مما تعدون.
فلنضع هذا جانباً، الأميركيون لم يخالجهم الشك في ولاء بعض الملتزمين، وفي سير البعض الآخر مع اتجاه الريح، ولم تزعجهم كثيراً ممانعة البعض، وقد انصب تفكيرهم في لحظة ما على ضرورة وجودأ نموذج لدولة إقليمية تُحتذى، تقوم بدور القاطرة الأيديولوجية والسياسية للعالم العربي، وتمثل حائط صد أمام الإيرانيين، والعرب القوميين والراديكاليين.
ولم يخالجهم الشك في ضرورة أن يكون هذا الأنموذج إسلامياً. لم يقنعهم لا الأنموذج السعودي، ولا المصري في صيغتيه الساداتية والمباركية، أرادوا شيئاً أكثر استقراراً وجاذبية. كان في الأنموذج التركي ما يرشحه لدور القاطرة. وقد اصبحوا بالتأكيد عمليين أكثر بعد هجمات 11 سبتمبر.
ثورات الربيع العربي لم تكن في الحسبان، قلبت المعادلات والحسابات. بعض المعادلات سقطت، وبعض الحسابات أصبحت عاجلة. أعقب الارتياح صعود الإسلاميين، وتجلت مشاعر الحيرة والتردد والغضب الأميركية، بعد الإطاحة بحكم الإخوان في مصر.
على هامش هذا كله، وبه ومعه، نشهد انفجار العالم العربي، مريض القلب الذي يداويه ميكانيكي سيّارات، على الجثة يتقاطر ويتكاثر ذباب، وتغني «الجزيرة» لداعش وأخواتها: «أمجاد يا عرب أمجاد».
*ينشر بالاتفاق مع صحيفة «الايام الفلسطينية».