جمال جصاني*
اشرنا مراراً الى الغربة العميقة التي تعيشها «الصناديق» وما يتجحفل معها من ملحقات مادية وقيمية وادارية في مضاربنا التي غدت نهباً لنسخ مشوهة من مؤسسات ما قبل الثورة الفرنسية (عشائر وطوائف وملل..) . وليس غريبا ان تنظم هذه الآلية وتقنياتها الى اقطاعيات وحرملك القوى التقليدية المهيمنة على مقاليد امور عيال الله الدنيوية والآخروية. هذه الحقيقة يكشف عنها ما يطفح من ارقام ومعطيات عن عمليات عد وفرز الاصوات في الجولة الاخيرة من الانتخابات البرلمانية الثالثة، حيث اشارت النتائج الاولية عن عملية اعادة شاملة لترميم وانتاج السلطة الاولى (البرلمان) برغم أنف العجز والفشل والهزائم الهائلة التي الحقها بحاضر ومستقبل سكان هذه المستوطنة القديمة. لكن والحق يقال؛ لا يمكن نكران الدور الذي تكفلت به الصناديق في ظل اوضاع بالغة الصعوبة والتعقيد، وجد العراقيون انفسهم وسط اضطراب امواجها بعد تبخر آخر مظاهر الدولة ربيع عام 2003 ، لقد اسقطت الجولات المتتالية من العمليات الانتخابية، المساحيق الغليظة عن الامكانات والملامح الحقيقية لمجتمع تعرض لأشد الهزائم البشرية والقيمية والمادية طيلة أكثر من نصف قرن من التجارب الشعبوية والسياسية الخائبة. والنتائج التي سيعلن عنها في الايام القليلة المقبلة، ستعكس معطيات وحقائق واقعية، تتطلب منا جميعاً التوقف عندها ودراستها بشكل مهني وموضوعي، للخروج بدروس ونتائج تساعدنا على فهم مغزى ما حدث وما يمكن ان يحدث لاحقاً. نحتاج الى مواقف مسؤولة ومتوازنة بعيدة عن المواقف الجاهزة والمتعالية لغير القليل من الضاجين اليوم على منابر الفضائيات والصحف والمطبوعات. كما ان الزعل والتذمر والشكوى الرائجة اليوم لا عند الافراد الاعتياديين وحسب بل بشكل اشد فتكاً عند غير القليل من المنتسبين لنادي النخب الثقافية والسياسية، ستضعنا أمام مهمة مواجهة العيوب البنيوية الفعلية والتي تقف خلف كل هذا الخواء والعجز المترصد لكل محاولة أو مشروع جاد يتطلع للنجاة من الكارثة المحدقة بنا جميعاً.
ان التجربة الجديدة لتأسيس النظام الديمقراطي في بلد عاش أحد ابشع التجارب التوليتارية في التاريخ الحديث، لن تكون يسيرة ابداً، وليس غريباً ان يتم استغلال آلياتها في المرحلة الاولى من هذه التجربة الفتية، لكن ومما لاشك فيه فان مكر وفلسفة وروح الصناديق ستنتصر للقوى الفتية المؤمنة بالخيار الديمقراطي ومايرافقه من قيم ومنظومات الحداثة والحريات وحقوق الانسان.