ترجمة عامر كامل السامرائي
پالي* يبلغ من العمر اثنتي عشر عاماً، في الصف الثالث الثانوي. مدعواً عندهم للعشاء.
بعد العشاء، بينما كان الضيوف في الصالة يشربون ويدخنون، وفي حوالي الساعة الحادية عشر أرى ضوء في غرفة الطالب. أتلَصَّصُ عبر الباب الزجاجي.
الطالب الصغير يجلس هناك، إلى طاولة مغطاة بشرشف أخضر من الكتان المشمع. بيده قلم وأمامه ورقة. مغضناً جبينه، يتأفف ويعضض نصل قلمه، يغمره في المحبرة بين الفينة والأخرى، ولكن لا يكتب.
هكذا تمضي خمسة دقائق، عندئذٍ أفتح عليه الباب. فيحييني قائلاً:
- أُقبّلُ يَدَكْ.
- مرحباً. ما هذا، أنت لَمْ تنم بعد؟
- عليَّ كتابة إنشاء ليوم غد.
- عن ماذا؟
- عن والدي.
- أوه! – أقول. – عن والدك؟
- عنه! – يقول – ويدفع نحوي كراسته.
العنوان: والدي.
ترتيب إنشاء الوالد كالتالي:
أ) كتابة مقدمة
ب) حديث عن: صفاته، عاداته
ت) خاتمة: بماذا نحن مدينون لوالدنا؟
أجلس إلى طاولتهِ، قبالته، وأُراقبه. وجهه منزعج، عيناه محمومتان، شعره الأشقر منفوش، كأنه نابغة مضطرب، يعذبه ألم الابتكار. على أنفه حبر. - ماذا كتب لحد الآن؟ – استجوبته -أريني.
- هذه فقط مسودة -مبرراً.
“المسودة” كانت فعلاً متسخة، كل ما عليها عبارة عن بقع، وصورة ملطخة لحيوان -كلب أو خنزير، علامات استفهام وتعجب وكلمة وحيدة: “والدي”. ولكن حتى هذه الأخيرة شطبها، مسحها، بل كاد يطمسها تماماً. فبالتالي لم ينجز شيئاً يذكر.
أرجعت له الورقة بصمت. - إذن، أكمل –أشجعه، أنت تدري عن ماذا ستكتب. والدك في البداية ينبغي علينا تجزئته إلى ثلاثة أقسام.
أعرفه جيداً: صبيُ فطن، طالب متفوق، ذو معرفة تفوق عمره، واسع الأفق.
مرة أخرى ينظر شاخصاً أمامه، مغضناً جبينه، يتأوه. - لا يخطر ببالي شيء -يتذمر.
أهز رأسي – أتحب والدك؟ - بلى -قال متبسماً – أو لا تحبه؟
- كيف لا -قال وتبسم مرة أخرى.
الآن أشعر بتعاطف معه، ولكن مع قليل من الحسد ايضاً، وبلا شفقة وخباثة تُمَتِعُني حيرته، “ماذا كنت سأكتب عن والدي وأنا في الثانية عشر من عمري؟ كنت أنظر إليه وكأنه سلسلة جبال. غابة بدائية معتمة، صوته كالرعد، كنت أحبه بشغف. حدث وأن وقفت متحيراً، ثائراً، تاركاً منضدة الطعام، حين لاحظت أنه وبطريقة لبقة يَتَشممُ قطع اللحم، هارباً إلى الغرفة الثانية، ومن هناك صرخت بصوت عالٍ، لكيلا أنتبه لأفكاري المفزعة. خفت حينها من أن يطلق على رأسه رصاصة”.
مثل هذه العبارات لا يمكن أن يحتويها إطار إنشاء مدرسي.
بعدها فكرت:
“لو أن پالي الآن يستطيع كتابة ما يكنه في صدره، فسيصبح أفضل كاتباً في العالم، وسيكون شكسپير قياساً به عبارة عن لا شيء. وتولستوي طفل بائس، بشخصيته المتفردة واللامحدودة، التي لا تقيدها صلابة الشكل. لكن، ولهذا السبب بالذات لا يستطيع أن يكون شخصانياً. يجفل من الحياة الجامحة الساكنة في داخله. خواف، خجول. ما قيمة كل ذلك اللهب الذي يتأجج في داخله؟ فلم يسبق لأحد أن أشعل سيجارة من فوهة بركان حامية.”
في تلك الأثناء كان پالي قد شرب كأساً من الماء، عطس، سعل، وعاود كتابة “والدي”، ثم شطبها مرة أخرى. أخرج ورقة جديدة، والتي راح يحملق باتهام في نصاعتها التي لا توصف. يرمش بوسن. تأخذني الشفقة عليه. - هكذا لن ننتهي أبداً -أحثه. -لنبدأ بكتابته، بُنَي. أيُّ رجل والدك؟ لنكتبه.
أُمل عليه، في البداية بتحفظ، وبطء شديدين: - “والدي عمره أربعون عاماً. طويل القامة، مفتول العضلات، شجاع. شعره الأسود بدأ يشيب عند صدغيه، جبينه ملأته السنين حفراً من التجاعيد…”
پالي يكتب بسرعة وبدون أخطاء، ينظر إلى بعد كل جملة، يترقب كلماتي المنقذة، وأنا ايضاً تأخذني معه الحمية، أتشجع، ودون حتى أن أفكر، صرت أمُلّيه بوقاحة وجسارة. - “وجهه لطيف”. ما هو الجزء الثاني؟ ما هو الجزء الثاني؟، آه، صفاته. لنقل ببساطة: “خلوق. دائماً مستقيم وحازم. الصرامة يَزنها بحكمة مع الحق. إذا تعب في حربه مع الحياة، يجد في الأماسي المواساة وهو بين عائلته، وعندها في دائرة ذلك الضوء ينتشي…”
النهاية سأتركها لك. هنا أستخدم معه طريقة سُقراط. - أتمنى -أقول له -، لو أنك تعرف الآن بماذا تدين لوالدك؟
- بالشكر -يرد پالي قائلاً بطريقة آلية.
- وهو كذلك -أومئ برأسي -، بالشكر “وبذلك الحب الكبير، وبتِلك التضحيات الكثيرة، واللامحدودة”
انتصف الليل، حالما انتهينا، عندها أخرج إلى الصالة نحو أصدقائي. - وأنت أين كنت؟ يسألني والد پالي.
- عند ولدك.
- ماذا فعلت؟
- ربيته، روضته على الحياة. علمته كيف يكذب.
………………………….. - پالي هو اسم الدلع لاسم پال باللغة المجرية و Pall بالإنكليزية