كتاب كريم كطافة عن تجربة الأنصار الشيوعيين
فيحاء السامرائي
تتباين الآراء بشكل بادٍ بشأن حركة الكفاح المسلح للحزب الشيوعي العراقي للفترة مابين 1979-1989، وتتنافر الرؤى بشأن أسباب قيامها وجدواها ونتائجها، إذ عدّ البعض تبنيها لم يكن برغبة ذاتية مخطط لها مسبقاً، واللجوء اليها كان دفاعاً عن النفس و حماية لأعضاء الحزب وهيكله من التصفيات، من أجل العمل لاحقاً على إعادة الوضع الداخلي في ظل ظروف قمع سلطوي استثنائية.. في حين يجد آخرون خطوة تبني الحرب الأنصارية خطأً، ويلقي باللوم في نكوصها وخسائرها على قيادات شيوعية عربية وأحزاب كردية، ناسخة تجربة حرب العصابات التحررية اليوغسلافية والفيتنامية والكوبية.. ولليوم، ثمة من يؤيد ويتحمس لها ويمجّدها، وثمة من يدين ويوجّه أصابع الاتهام بسبب تضحيات وخسارات ومعاناة كان يمكن لها ألا تحصل.. ولا تتوفر دراسة محايدة وموضوعية عنها طالما أن أدب المواجهة للواقع السياسي أما أن يكون متحيّزاً لجهة أو ناقداً لها من باب الإدانة، يظهر ذلك في عدد من الأوراق والكتابات من خارج التجربة ومن صميمها، بسرد توثيقي سياسي تحليلي أو على نمط سرد أدبي روائي أو قصصي.. وعلى سبيل المثال يستفيد الكاتب الروائي كريم كطافة من أحداث الحرب المسلحة، لتكون لاحقاً متناً أساساً لروايته الصادرة حديثاً (حصار العنكبوت)، نظراً لأنه أحد المساهمين بتلك التجربة على وفق المسيرة التاريخية لها مركزّاً على أيامها الأخيرة، بتعبير «بعد عشرين سنة من الوعي المضاف»، وربما ينوّه على لسان شخصية (مدلول) بأن هدف هذا الاشتغال الأدبي» التوثيق وليس السرد».. كأنه يوحي بأنّ توثيق الحدث أهم من الفعل الروائي.. فهل تحققت الغلبة في الرواية للأخير؟ وهل ابتعد الروائي عن الجانب الفني بالاعتماد على الوقائع والأرقام والأحداث لتغدو تالياً مجرد أوراق مذكرات ووثائق تسجّل أحداثاً بذاكرة أرشيفية، وليس رواية بالمعنى الفني؟
سردية التوثيق
كيف يمكن تصنيف جنس العمل الروائي وعدّه «رواية تسجيلية» أم غير ذلك؟ فهل يكون تسجيل رؤية أم رواية الرواية؟ وماذا عن هيمنة البعد التوثيقي أوالوثائقي على البعد الفني أم العكس؟ وإلى أي مدى يمكن الجمع بين الروائي والتوثيقي؟ وكيف تتموضع علاقة العقلي بالجمالي المتخيَل؟ متى تتنحّى الوثيقة لتتبلور وتصبح فعلاً ناهضاً في الفضاء الروائي، أو بمعنى آخر، ما هي الحدود الفاصلة بين الوثيقة كحدث مضى، وبين العمل الروائي؟
من المعروف أن الرواية التسجيلية تتكأ على أحداث تاريخية وسياسية واجتماعية وتقوم بالرصد والتدوين والتقرير والإخبار عن الماضي، وفي الخصوص التاريخ المندرج غالباً في السياق التوثيقي والخبري.. وطالما أن الكاتب يتخذ من الواقع مجرد مادةٍ أو هيكلٍ يكسوه بمشاعره ومتخيلاته، ويبثّ فيه روحاً يضمنّها جسم عمله ومعمارها، فينبغي أن يكون التداخل والتلاحم منسجماً فعّالاً عبر المواءمة والاندماج بين التاريخي والروائي في مزاوجة فنية، وانتقاء وإعادة كتابة بصورة أبعد من توثيق جامد باهت، « فالمناسبة الخارجية يجب أن تتداخل مع المناسبة الداخلية لدرجة يظهر معها أن (الشاعر) هو الذي خلقها» (إلوار)، عنذاك تقود الوثيقة ذاتها إلى الصوغ الروائي لتكون مادته الغنية وتسهم في تطوره ونموه.. وتبرز براعة الكاتب في جعل العمل قصة واقعية يرويها بطريقته الخاصة باعطائها شكلاً متميزاً، مجسّداً فيها رؤية فكرية ونفسية وذاتية له، عاصرت الأحداث عن كثب، ويضع يدي عمله على الجانب الانساني، الأمر الذي لا يلجأ اليه المؤرخ.
ومن المفيد ذكره في هذا الصدد، أن ثمة محاذير يقع فيها العمل الروائي المعتمد على الوثائق، فالكاتب يكون في مفترق الطرق بين الكتابة التسجيلية والكتابة الروائية القادرة على تفجير المتخيل وإعادة تشكيل القضايا السياسية والتاريخية والمجتمعية، الأمر الذي يجعل الإفلات من قبضة النزوع التسجيلي الهادف إلى تصوير الواقع بشكل فوتوغرافي وبالخطاب الإعلامي ليس هيناً، وربما يغيب الخطاب الرؤيوي والروائي، وتصبح المتطلبات الخارجية في هذه الحالة صاحبة الصدارة على حساب المتطلبات الداخلية الآتية من أعماق الأديب والأدب، وتكون قيمة العمل الأدبي عندئذٍ مهدّدة، ويتشكل صراع داخلي بين واجب صادق تجاه وضع متمثل في الرصد الواقعي والفوري للحدث، يؤدي الى التقريرية وتكبيل طاقات الخلق والإبداع، وواجب آخر خاص، نحو الفن وفضائه الرحب..فهل يجانب الكاتب الواقع والتاريخ والحقائق، أم ينحاز الى الإبداع الفني؟ هل يمضي في موقفه الخاص والداخلي ويلج عالم المواقف بنحو لا يعترف بالتقرير والتسجيل، بعكس الحدث الذي هو شأن يقع في مكان وزمان متعلقين بأسباب موضوعية؟
يحسن هنا توظيف الوثيقة من دون تسجيلية باردة واستغلالها بطريقة ذكية لتتحول الى عنصر فعّال بقليل من الإنسجام بين المتطلبين الفني والتسجيلي، وربما قول هيجل عن الشعر ينطبق على الرواية أيضاً برغم انحيازه إلى التحرر من الواقع: «من غير المجدي الإلحاح على أن ( الأعمال الشعرية) كلها مرتبطة بشكل حتمي بعدد من الأحداث الواقعية، فبرغم أنها غنية بالمواد المستعارة من الواقع، فيجب أن تتحرر من كل تبعية تجاه هذا المضمون»..فهل تمّ ذلك التوازن أو نبذ الواقع في رواية (حصار العنكبوت)؟ أترك ذلك للقرّاء.
أرجع الى الرواية ومكان الراوي فيها، فمن خلال قراءتي وجدته عالِماً بما يدور حوله، يروي الأحداث حتى لو كانت على لسان آخرين، يعرف كلّ شيء عن شخصياته، دائم الحضور وكلّي الوجود والمعرفة ( في فصول عديدة مثل اختلاء وضحة ومناف، روز وحسام، قصة شيرين وغيرها) وتلك الرّؤية المطلقة «من الخلف» كما يرى – جان بيون- تخلق حالة من «التبئير الصفر أو اللاتبئير»، حيث إن له حريّة واسعة في تناول الأحداث والشّخصيّات، ولا يعترضه أيّ حاجز في رؤيته للوقائع وخلفيّاتها، فالتبئير غائب أو معدوم (صفر) بإسناد كل الصلاحيات للسارد العالم بكل شيء، ولايعني ذلك إنتقاصاً من جهده وفنيته، لكنه نوع من الرؤية الفنية.
هل من هزيمة للمشروع الأنصاري؟
يلخّص الروائي التجربة بجمل نكوصية عديدة وأحياناً حائرة لا تنطوي إلا عن انصياع مرّ لأوامر حزبية مُلزِمة، مازجاً صوته بأصوات الآخرين وبالعكس، بوصفه شخصية شاهدة على الأحداث أو مشاركة في صنعها: «لم نكن مرتزقة هبّوا للقتال»،»فقدت القيادة بوصلة القيادة»، «أن عملهم في جبال الكرد مهما يكن، سيكون معزولاً لا أثر له في بغداد»، «ان عليهم أن يقلبوا أساليبهم رأساً على عقب ويتخذوا وسائل أخرى. لكن ما هي هذه الوسائل وكيف يحصلون عليها؟»، «لم يجد قيادته قد استشعرت ذلك التبدل الكبير في ظروف الصراع، لم تزل وسائلهم وتوجيهاتهم وأفكارهم كما هي، ما يزالون بلا خطة عسكرية واضحة»، «أمر العوائل، كان علينا أن ننجز ذلك من زمان»، «كل واحد مسويله حزب خاص بيه»،» التعويل على الجنود لقلب نظام الحكم بعد انتهاء الحرب»، «تحوّل جهدهم العسكري الى مجرد تأمين القوت اليومي وفي مكان ثابت في كهف جبلي بدلاً من التنقل ومفارز متجولة «، «لعنة متساوية لجميع القادة ( صدام، ومسعود، وجلال، وعزيز محمد)»، «رابط العشيرة (للأكراد) أهمّ، الأحزاب ليس لها تأثير»، «خيانات وتخاذل قادة..»، «أين خطأ الطوارئ يا قيادة الحزب؟»، …»لا أحد كان مصدقاً أن تلك الحرب يمكن أن تنتهي مثلما هو غير مصدق أن حربهم الجبلية المشتعلة على هامش المدن والبلدات الكردية قادرة على اسقاط النظام في العاصمة»، «السياسي أم العسكري؟»، « لم تصل الحركة الى مستوى حركة ثورية عارمة»، «من قُتل قُتل، من بقي حياً، التهمه المنفى وتفتت الوطن والحلم من بين يديه»، «مسيرة عقد بدأت بالحماس وانتهت بقلة التدبر».
وبعد إنخراط عدد كبير من الأنصار الشيوعيين آتين من الخارج جراء ايمانهم بالحركة وبفعل عاطفة وحماس بطولي، أو بكون ذلك واجباً حزبياً، وأغلبهم من المثقفين، فأن العمل الأنصاري قد ازداد إرباكاً وغدا يحتاج إلى تفسير أوسع؛ لأن « التغيير بالقتل لا يتلائم مع شخصية الفنان والأديب» ص 160 .. كما أن إدراج مقولة «ليس هناك ثورة نظيفة بالكامل» لهي إشارة إلى الخيانات والاندساس اللذين شابا الحركة.. وإشارة الكاتب أيضاً إلى ظروف انصياع الحزب الى الأحزاب القومية الكردية بحكم الأرض المتواجدين عليها، دلالة على اشتراطات وإملاءات مفروضة على العمل الكفاحي.. وفي مفارقة غريبة، جاء حمل الأنصار للسلاح لمقاتلة من؟ إذا كان لمقاتلة أقطاب النظام، فماذا يعدّ الجنود الذين دفعتهم السلطة للقضاء على البيشمركة ومحاصرتهم وعلى القرى الكردية وحرقها، هل هؤلاء هم الأعداء؟ وكيف يقتل النصير جندياً متعاطفاً معه بكونه هو نفسه مرغم على القتال، وإن لم يحاربه، فمن سيحارب إذاً؟.. وهناك إشارة أخرى في الرواية الى أن بعض العجز أصاب قيادة الحزب في أثناء الحصار، تمثل بإعطاء أوامر غير مسؤولة « افعلوا ما ترونه مناسباً»، برغم أن الخطاب الإعلامي دائماً يكرر « لقد أثبتت الأحداث صحة تنبؤات الحزب»، أمر لم يتم تكهنه أو معالجته في أثناء حصار أكثر من مئة ألف إنسان من أطفال وشيوخ ونساء، من بينهم 160 نصيراً (ص 181).. ولا نغفل عن معلومة أخرى جاءت في الرواية وهي ضلوع بعض الشيوعيين بعمليات فيها قسوة واضحة، نتيجة لظروفهم الصعبة (ص 166).
كل ذلك لا يبرر قول بعضهم بأنّ «النظام اعتمد أسلوب القصف والحرق لكل القوى التي كانت تساعدنا». وكذلك ما أشير اليه في أحد المؤلفات عن التجربة : «لقد كان على النصير أن يقاوم الأعداء، ليس فقط بإشهار سلاحه وانما بجسده وأحاسيسه وحواسه، فالطبيعة وكائناتها المستبدة، تتطلب استنفار الحواس وجعلها في أقصى حالات الإنذار، فإن لم تمت في كمين نصبه العدو أو الصديق، وإن لم تمت بطلقة أو قذيفة أو صاروخ أو ثاليوم أو غاز سام، فانك تموت بلدغة أفعى، أو تدفنك عاصفة ثلجية، أو تنزلق قدمك وأنت تسير في الظلام فتسقط في وادٍ سحيق، أو يجرفك التيار فتغرق، أو تصاب بالإسهال فتفارق الحياة لعدم توفر العلاج، أو انك تقدم على الانتحار في لحظة نفسية شديدة الوقع».
كل ذلك يجعلنا نفكر بسؤال كبير وهو- لماذا كان كل ذلك، ما جدواه، وما الثمن؟..ليقودنا أخيراً إلى تساؤل مرّ: لماذا لم ينجح في العراق وإلى اليوم حزب معارض؟ ولماذا يعتمد ساستنا وقادتنا من أحزاب معارضة وحاكمة على سياسات خارجية ودول أجنبية؟
الفضاء الروائي
يبدو تأثر الروائي بالسيناريو جليّاً في شخصية – حيدر كاميرا- بشريطه السينمائي، وان استعمال المناجاة والمونولوج الذاتي والحوارات، أغنى البعد النفسي للشخصيات وشدّ الحبكة السردية، ليبني بالتالي نسيجاً متراكماً، كما أضاف تدوين – مدلول- المهووس بالتوثيق، تنوّعاً في الأسلوب وتلوّناً، خلق لغة شعرية وواحة استراحة من تفاصيل وأسماء مكانية مسهبة ربما ترهق القارئ.. فالمكان هنا، وفي الخصوص الجبل، له سطوة واضحة تجعله شخصية رئيسة في الحدث وتعطيه دوراً أكثر وأكبر من كونه مكان: «لكل جبل من هذه الجبال روايته، لكل قرية روايتها، لكل نصير روايته».
زمن الرواية محدد وواضح، في آب وأيلول من العام 1988. وأيضاً، تكثر أسماء الشخصيات، وتظهر في كل فصل أسماء جديدة، وأحياناً ينقطع ذكرها وتختفي من القص، كما تتعدد العناوين الفرعية للفصول، ويجيء عنوان الفصل 21 غير منسجم بعض الشيء مع تفاصيله.. لكن يلاحظ أن هناك مصطلحات (أنصارية) انتشرت في الرواية الاستعادية « رفيق محروق، منطقة محروقة…»، مع مشاعر حرمان بارزة: «حضن يعيد له مزاجه الذكوري»، وتشيع بين الوريقات كذلك ممارسات يومية تضمنها السرد من أبرزها « ان أرض المقاتل هي بندقيته وحقيبته الظهرية».
وأخيراً لا أظن أن المؤلف يكتب كل هذه الصفحات من أجل تسجيل حدث من الأحداث في حياة حركة وطنية وفي حياته وحياة آخرين، وأنه ربما يفعل ذلك لمشاركة تعاطف قرائه أو لإحداث تحولات في وجهات نظرهم نحو قضية معينة..فهل حدث ذلك؟