وظيفة أخرى للفن

منذ بدايات القرن المنصرم كانت ثمة تحولات، وثورية أسلوبية ومضمونية، لحقت بالفن، جاء ذلك بأسباب الإرث الفكري للنظريات الفنية، وكذلك بأثر ولادة المظاهر الجديدة لذلك العصر ومراحل التطور المديني والاجتماعي التي تحققت بعمق في معايير التفكير وأساليب التعبير والإبداع.
كان الإرث الفكري ذاك، والمتمثل بالأطروحة الجمالية ونظرياتها العديدة، المختلفة، بتعدد الفلاسفة والمفكرين الذين نظروا إلى الفن عبر جهد تأملي، حرّض نقاد الفن كما الفنانين أنفسهم، بضرورة إلغاء التعارض القائم مابين الفن والنظرية، ومابين الممارسة الفنية ومقصدها الجمالي. والنظر إلى الفن، من كونه شكلاً للقيم الجمالية وتمثيلاً لها، إلى الفن بوصفه وعياً بهذه القيم وتجسيداً لها. أي التحول من التفكير بالفن كأثر ذاتي إلى تعيينه وسيلة معرفية وجمالية متميزة.
ما قبل الفن الحديث والذي بدا مع الانطباعية، كان الجانب المضموني في العمل الفني يتمثل كرؤية مستترة ضمن نظامه الشكلي، غير إن هذا الفهم قد تغير لجهة طبيعة السلوك النوعي الذي اختطه الفن في القرن العشرين بوصفه فناً حديثاً. والذي لم يأت باتجاهات وأساليب عالمية جديدة مارست تنوعات لانهائية للغة البصرية، بل ابتكر أيضاً البيانات والنظريات المصاحبة لحداثة تلك الاتجاهات والأساليب. حيث أصبحت التجربة الفنية قائمة على دواعي جمالية جديدة يوفرها البيان الفني والنظرية الفنية اللذان باتا يمثلان فعلاً ثقافياً وفكرياً يصاحب متطلبات العمل الفني الجديد.
لم تعد المتعة الشكلية، الشرط الوحيد كي يتمكن العمل الفني من أداء وظيفته المتفردة، بل بات عليه أن يفترض أنواعاً وظيفية أخرى، معرفية أو سياسية أو حتى وجودية. لقد أصبحت حقيقة العمل الفني هي أيضاً حقيقة المضمون الذي يبشر به، كما صار يطلق على التجربة الفنية بأنها الممارسة التي تكافئ معناها وتقترح التفكير فيه. فالفن أصبح خاضعاً أيضاً لطبيعة القول عنه عبر قدرته على الكشف عن معناه، وغائيته التي تكمن في التصريح عن ماهيته المتشكلة من خبرة ذاتية وموضوعية يمكن لها أن تحقق دوراً ملهماً في الحياة.
بذلك أضحت الأعمال الفنية مثيرة للدهشة بأثر موضوعاتها وطبيعة خاماتها المستعملة، مستجيبة تماماً لسمة العصر القائمة على التقدم، فيما بدا الفنان يسعى باتجاه دور آخر، لا يكتفي خلاله بالمهارة، بل الاستعانة بالأفكار والتقنيات المختلفة والغريبة. هكذا أصبحت تجارب الفن الحديث، تستعين بالخطاب الذي تكفل بدوره لتمييزها واقتراح توصيات عليها ليتم إدراكه بصورة دقيقة وإقامة حوار عن الأسئلة التي يثيرها. في الوقت الذي أدرك الفنان فيه ضرورة حضور خطاب يوازي اكتشافاته ومغامراته الأسلوبية، إذ لم يعد العمل الفني منجزاً تلقائياً بل ممارسة تتحقق بأثر التفكير والتواصل، وهو أيضاً نتاج ملاحظة وخبرة وتأمل وموقف من العصر. إن جرأة متفردة كهذه كان لابد لها من معنى لغرض تمايزها، كما إن دواعي الوعي بمهمتها لايتأتى من الاكتفاء بمنجزات مرئية ورسوم تجريبية بل بإضافة البعد النظري للتجربة الفنية وتمييز سياقها الجمالي.
سعد القصاب

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة