حاورته: كلاوديا كراماتشيك
في روايته «المكان الأخير»، يرمز الكاتب شيركو فتاح -المولود لأب كردي عراقي وأم ألمانية- بأحد الخاطفين إلى الإسلامويين الراديكاليين الذين يتحسرون على بلاد ما بين النهرين العتيقة. يقول الكاتب في حواره التالي إن «الرواية المتمحورة بشأن سوء التفاهم بين الثقافات تصف خلفيات نشوء تنظيم «الدولة الإسلامية». ويرى أن المشروع الراديكالي الإسلاموي المختَزل في الدين أكثر تعقيداً مما يريد تصديقه الكثيرون في الغرب، مشيراً إلى معارضة أصولية «ثورية اجتماعية» مناوئة للغرب تقوم على أشلاء الدول الفاشلة في تخوم النظام العالمي.
* ما الذي يجذبك ككاتب إلى التفكير بالحدود أو بالأحرى وصفها؟
– أوَّلاً وقبل كلّ شيء طبيعة الحدود بحدّ ذاتها. المناطق الحدودية تعدّ دائماً بحسب تجربتي مناطق برية لا توجد فيها رقابة. يظهر ذلك بصورة خاصة في كردستان، أي في الجزء الواقع ضمن حدود العراق الحالي (عام 2014) المتداعية، والذي كان موضوع روايتي الأولى وكذلك موضوع الروايات الأخرى. ويضاف إلى ذلك أنَّ هذه الحدود تم وضعها تاريخياً بشكل تعسفي تام. وهذا يعني أنَّ أجزاءً قد نشأت هناك، لا يمكن منع تفكك بعضها عن بعض إلاَّ بالقوة. والآن أصبحنا نعيش حدوث هذا الانقسام.
*غالباً ما تكون شخصيات رواياتك جناة وضحايا في الوقت نفسه، وهذا يؤدِّي بالتالي إلى تشتيت فكر القُرّاء. في روايتك الحالية «المكان الأخير» تستكشف حدوداً أخرى: أي حدود فهمنا الثقافي لمَنْ يطلق عليهم اسم الآخرين…
– هذا ما ينشأ في الواقع بالفطرة: هناك شخص ألماني يتم اختطافه مع مترجمه المحلي، فيتحتَّم عليهما الآن وبالضرورة تكوين قاسم مشترك بينهما. ولكن وبطبيعة الحال تظهر في ذلك جميع الاختلافات الموجودة بين طبيعتيهما – جميع أصولهما المختلفة وأطباعهما. وعلى الرغم من أنَّهما قادران من دون ريب على الكلام، يتَّضح أنَّ لقدرتهما هذه حدودها وأنَّ لتفاهمهما المتبادل حدوده، وفي نهاية المطاف يحدث شيء أشبه حتى بالكفّ عن التضامن فيما بينهما.
*نحن نرى ألبرت من خلال عيون أسامة؛ ونرى كذلك أسامة، العراقي، من خلال عيون ألبرت. ويبدو ألبرت في ذلك كتجسيد للغربي الذي يضفي على «الشرق» وبسذاجة خطيرة طابعاً مثالياً. فهل ينطبق هذا الانطباع عليهما؟
– أعتقد أنَّ ما ينطبق على ألبرت أكثر هي قناعته بأنَّه أَعرف من الجميع في الأمور الإيديولوجية. فهو يسافر بحقيبة صغيرة، ويسير على خطى والده الجبّار، غير أنَّه بعد ذلك لا يكون قادراً في الحقيقة على إدراك الآخر، وذلك لأنَّه قد عُبِّئ تماماً بالأفكار الاشتراكية المتأخرة التي تم تبطينها أيضاً ببطانة مشكوك فيها. أمَّا والده فقد كانت لديه نظرة جميلة إلى العالم، لا تشوبها شائبة؛ لكنها لم تعد سارية بالنسبة لألبرت. مع ذلك فهو لا يجد أي بديل. وهكذا فإنَّ بحثه عن الحقيقة أو عن الواقع هو أيضاً في نهاية المطاف بحث عن الذات. وهذا أمر لا توجد له علاقة كبيرة مع الواقع. وهذا ما أردت إظهاره.
*هل يجب إذًا فهمت رواية «المكان الأخير» من ناحية التفاهم الثقافي على أنَّها رواية متشائمة؟
– هناك مشهد صغير مع الصبي الصامت، الذي لا يستطيع ألبرت الحديث معه. كانت نجاته قريبة؛ لكن ألبرت لم يكن قادراً على فهم ما الذي يريده منه هذا الصبي. فلو أنَّه اتَّبعه فقط -وهذا بالذات أمر صعب في الغربة- لكان تفاجأ. على هذا النحو يحمل معه حكمه المسبق، وذلك فقط وببساطة لأنَّه لا يستطيع الحديث مع الصبي. وهذا هو النمط الذي تعمل بحسبه هذه الرواية: فهي رواية بشأن سوء التفاهم بين الثقافات.
*روايتك هذه لا تقفز متنقلة فقط بين الحاضر والماضي، بل كذلك بين العراق وجمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) البائدة. فهل ترسم شكلاً من أشكال الخطوط المتوازية بين الأنقاض العقلية التي خلّفها انهيار جمهورية ألمانيا الديمقراطية وكذلك انهيار العراق؟
– نعم، ولكن مع جميع الاختلافات. بيد أنَّني أعتقد أنَّ الآليات الأساسية هي دائماً نفسها. تفكُّك المجتمعات يعني أكثر بكثير من مجرَّد خسارة أفكار. فهو يعني خسارة الامتيازات والوظائف والأمان. إنَّ ما كان يهمني هو هذا الانتقال بين النظم الفكرية – وهذه التجربة مؤلمة بالنسبة لألبرت. فهو يتوق في الحقيقة طوال الوقت إلى الأمن الذي كان ينعم به والده في السابق. من الصعب على أسامة فهم ذلك – لأنَّه لا يعرف هذا الأمن. وبالنسبة له يعدّ هذا فقداناً للواقع. ولذلك فقد وجدت من المناسب كثيراً جمع هاتين الشخصيتين في مكان واحد.
*مثلما كانت روايتك «السفينة المظلمة»، جاءت أيضًا روايتك (الصادرة عام 2014) «المكان الأخير» بالغة الأهمية: يرمز عبد، وهو أحد الخاطفين، إلى جميع الإسلامويين الذين يتحسّرون على بلاد ما بين النهرين القديمة ويتَّبعون آراءً أصولية لا تعرف سوى العدو أو الصديق. هل كنت تتوقع حدوث التّطورات الحالية (في عام 2014) في العراق؟
– كان من الممكن أيضاً أن يظهر أنَّ هناك أعواماً من إسلام غريب ستأتي – اسلام رغم أنَّه مهدَّد ولكنه متين على نحو ما. غير أنَّني مع ذلك كنت متأكداً، وقد وصفت لهذا السبب في هذه الرواية خلفيات تاريخ حركة الدولة الإسلامية في العراق والشام. إذ إنَّهم هم أنفسهم: الخاطفون الذين خطفوا ألبرت، هم في نهاية المطاف طلائع هذه الحركة. ومن تنظيم القاعدة في العراق نشأت هذه الدولة الإسلامية في العراق والشام، على أية حال فيما يتعلق بالعراق. وقد فعلتُ ذلك عن قصد – لأنَّني كنت أعرف أنَّهم سوف يعودون في نهاية المطاف إلى الحدود القديمة التي أنشأت الشرق الأوسط في شكله المعروف لنا.
غير أنَّ مشروع هؤلاء الإسلامويين بكامله يعدّ في النهاية معقداً أكثر بكثير مما يريد تصديقه الكثيرون في الغرب. صحيح أنَّه يُختزل في الدين، ولكنه أيضاً ومن دون ريب مشروع ثوري اجتماعي وهو كذلك معارضة أصولية مناوئة للغرب – مؤسّسٌ على أسس عميقة جداً ومنتفع كثيراً من جميع «الدول الفاشلة» ومن جميع المناطق التي لا يمكن السيطرة عليها في تخوم هذا النظام العالمي، بحيث أنَّه سيصبح على الأرجح واحداً من الموضوعات الحاسمة في العشرة أعوام المقبلة.
*هل تجرؤ على إلقاء نظرة إلى المستقبل؟
– في الوقت الراهن من المحتمل تفكّك البلاد. لا أستطع القول ما هو الجيِّد وما هو السيئ في ذلك. ومثلما نعلم جميعنا، فقد وقعت دائماً اضطرابات في العراق. لماذا يجب على المرء التمسّك بحدود قائمة منذ مائة عام؟ هذا هو السؤال الذي من الممكن أن يطرحه الأكراد الآن في المرحلة الراهنة. فهم قادرون الآن على إعلان دولتهم. ولكنني أعتقد أنَّه لن تكون هناك علاقة جوار سلمية مع الإسلامويين المتطرّفين، سواء أكان للأكراد دولتهم أم لا.
*عن موقع «قنطرة»
رواية الكاتب شيركو فتاح « المكان الأخير « Der Letzte Ort، صدرت عن دار نشر لوشترهاند ليتيراتور هاوس Luchterhand Literaturhaus، سنة 2014، في 288 صفحة.
وولد فتاح لأب كردي من كردستان العراق وأم ألمانية. أمضى الأعوام الأولى من طفولته في ألمانيا الشرقية. ويعيش في برلين، حيث يعمل ككاتب حرّ. ومن رواياته أيضاً: رواية «السفينة المظلمة» ورواية «أرض بيضاء».