علي عبد العال*
تسجّل التجربة الديمقراطية الحديثة بالعراق، ونحن نكتب هذا المقال، إنتكاسة كبيرة تبلغ مستوى الخطورة السياسية القصوى على الصعيد الوطني. ذلك عندما تم الإلتفاف على بنود الدستور العراقي، خصوصاً المادة 76 منه التي تنص على تكليف رئيس الجمهورية الكتلة الأكبر الفائزة بالانتخابات البرلمانية العامة، وتكليف مرشحها لتأليف الحكومة الجديدة. وحدد الدستور للعام 2005 مهلة 30 يوماً لحسم هذه القضية بتسمية الكتلة الأكبر ومن ثم تكليف مرشحها لتأليف الوزارة. وإلى يوم قريب لم يطرأ أي تغيير على الساحة السياسية العراقية بالرغم من بعض الأصوات الغامضة وغير الدستورية التي تنادي منذ فترة سابقة على الانتخابات الأخيرة بإقصاء رئيس كتلة دولة القانون السيد نوري المالكي الفائز دستورياً عن حقه الشرعي بتأليف الحكومة وإبعاده كشخص فائز رسمياً عن ممارسة دوره الذي ضمنه له الدستور.
أود توضيح أمر للقارئ الكريم لتلافي أي لبس في خضّم التراشق الإعلامي المنفلت من عقاله، أنني مواطن عراقي اعتيادي سبق لي دراسة القانون، فضلا عن مهنتي الصحفية التي تجبرني أخلاقها المهنية المحض النظر للأحداث السياسية والقانونية الجارية بالعراق نظرة محايدة وواقعية لا تقبل التدليس والتزييف والمنفعة الشخصية. لذا أرجو ألا يُفهم من كلامي على أنه دفاع عن شخص أو حزب أو فئة أو طائفة. لم أفعل ذلك من قبل ولن أفعله مازلت على قيد الحياة.
ما جرى يوم الأثنين 11 آب 2014 هو حدث سياسي تاريخي شاذ كامل الشذوذ عن جميع السياقات التاريخية الديمقراطية في التاريخ المعاصر. بكلمة مختصرة يُعد هذا الحدث السياسي الشاذ هو مؤامرة بالمعنى السياسي الدارج. وهو شّكل وسوف يشكل مستقبلا طريقاً متعرجاً وغير واضح المعالم للتجربة الديمقراطية الحديثة العهد بالعراق الجديد ومستقبله السياسي المقبل. وقد ذكرنا المشهد الساذج المؤلم الذي ظهر فيه رئيس الجمهورية فؤاد معصوم في إحدى الغرف، وربما الأقبية، ذكرنا بما كان يفعله حزب البعث العربي العنصري الشوفيني عند إصداره للقرارات السياسية التعسفية والبيانات الثورية من قبل ما سُمي بمجلس قيادة الثورة آنذاك. وكانت البيانات السياسية التي توّزر الوزراء وتعزل الآخرين بعيداً عن الصحافة والإعلام فكيف الحال بنا اليوم والدستور العراقي الجديد ينص في أكثر من فقرة على إجراء هذه التقاليد السياسية الدستورية المفصلية تحت قبة البرلمان وتحت مشاهدة الشعب عبر وسائل الإعلام المحلية بالدرجة الأولى والدولية بالمحصلة ضماناً للشفافية المطلقة التي تبناها الدستور العراقي الجديد؟ ما جرى بالواقع هو تآمر ليس على شخص السيد رئيس الوزراء نوري المالكي الفائز بكتلته بغالبية الأصوات الانتخابية، وإنما هو تآمر شاذ وغير قانوني وغير واقعي على أصول العملية الديمقراطية وعلى فئات وشرائح كبيرة من الناخبين العراقيين الذين أدلوا بأصواتهم في ظروف أمنية قاهرة لهذه الكتلة الفائزة وزعيمها الممثل لها بالبرلمان.
ببساطة متناهية تشكل هذه الخطوة السلبية المفاجئة على الساحة السياسية العراقية بجماهيرها الغفيرة من قبل منصب رئيس الجمهورية، الرمز الأول لضمان تطبيق بنود الدستور بحذافيرها وبالدقة الصارمة، تشكل نكسة كبيرة للتجربة الديمقراطية العراقية الحديثة. وتشير بالتالي إلى فقدان الأمل وفقدان الثقة بهذه العملية وجدواها من قبل الشعب العراقي طالما تتعرض لمثل هذا التشويه والغمط والإلتفاف عليها حسب الحاجة وحسب التلاعب الساذج رضوخاً للرغبات والضغوط الداخلية والخارجية البعيدة تمام البعد عن صناديق الإقتراع وأصوات الناخبين.
الآثار المستقبلية للتجاوز على بنود الدستور
يمر الشعب العراقي بإمتحان عسير وخطير بين الخيارات المتاحة أمامه؛ أفضل تلك الخيارات كان اختياره للنظام الديمقراطي البرلماني، وقد اختاره الشعب العراقي بأغلبية واضحة، عدا بعض القوى التي لا تحبذ هذا الخيار من العسكريين المحترفين ورؤساء بعض العشائر الذين يفضلون نظاماً مركزياً مطلقاً يقوده فرد مطلق الصلاحيات، وهي فئة منفردة ضئيلة العدد وضيقة الآفاق السياسية لا تتمتع بالتأييد الشعبي الواسع على أية حال.
المشاركة الشعبية بالعملية الديمقراطية بالعراق أثبتت بما لا يقبل الشك إرادة الشعب العراقي للنظام الديمقراطي، وكان ذلك هو إنتصارهم الكبير، ورد فعلهم التاريخي على نمط النظام الدكتاتوري المستبد والمطلق على مقدراتهم وحقوقهم التي تم إهدارها عبر عقود طويلة ومرعبة من القمع والوحشية والحروب الجزافية التي لا طائل من ورائها سوى تمجيد الدكتاتور الفرد.
أُصيبت التجربة الديمقراطية الجديدة بنكسة أولى عندما تفوقت القائمة العراقية وفازت بأكثرية المقاعد البرلمانية بمقعدين 99 إلى 97 لصالح القائمة الخصم، وبالتالي ما جرى من تدليس وتزوير وتفسير لبنود الدستور وتدخلات الدول المجاورة وفي مقدمتها إيران، إضافة للدول الأجنبية ذات المصلحة المباشرة بصياغة الشكل السياسي للحكومة العراقية على وفق رغباتها ومصالحها الكبرى في المنطقة، فقد تم التجاوز على الدستور وعلى العملية السياسية الديمقراطية برمتها عندما تم إبعاد القائمة العراقية من قيادة المرحلة من سنة 2010 حتى العام الحالي 2014.
مآسي الشعب جراء التجاوز على حريته بإختيار قادته
يؤكد الواقع السياسي الصريح، وتؤكد جميع الأحداث المأساوية التي عصفت ومازالت تعصف على قدم وساق بالشعب العراقي معرضة أمن المواطنين وأرواحهم وممتلكاتهم وحياتهم الإنسانية الطبيعية وتعطيل مؤسسات الحكومة والدولة والنكوص والتراجع في العلاقة الجوهرية بين إقليم كردستان والحكومة المركزية ببغداد، والأكثر مدعاة للأسى والحزن إنفراط العقد الاجتماعي بين مكونات الدولة العراقية ذاتها فيما حصل بتمرد أهل السنّة بمناطقهم التاريخية بالرمادي وضواحيها، مما سمح لدخول العصابات الإجرامية من الدواعش والقاعدة لتعيث فساداً بهذه المناطق تحت غياب مطلق من قبل الحكومة العراقية. ما الذي أدى إلى تلك النتائج السياسية الكارثية بالأساس؟ إنها بإختصار الفبركة السياسية والإلتفاف على بنود الدستور عندما فازت القائمة العراقية عام 2010 وتم إقصاؤها بطرق غير دستورية وغير قانونية.
جميع هذه المآسي والكوارث الاجتماعية حدثت جراء التجاوز على حقوق الناخبين في المرحلة الثانية بتآمر من قبل الساسة الذين لم يحترموا إرادة الشعب العراقي تحت ضغوط طائفية وأجنبية احتلت الرغبة الإيرانية كلمتها الأعلى. ليس حباً بالمالكي وإنما كرها لأياد علاوي. والآن ليس حباً بحيدر العبادي وإنما كرهاً بالمالكي. وهكذا تدور عجلة الديمقراطية العرجاء بالعراق.
شُق التحالف الشيعي من الجذور العميقة، وتلك بحد ذاتها تنبيء بكارثة سياسية واجتماعية داخل المنظومة الشيعية ذاتها التي تؤلف المصدر الرئيس للتوافق الشعبي بأكثريته البرلمانية. بدا من السهل جداً، بل الأكثر سهولة شق صفوف الجناح الشيعي في العمل السياسي العراقي على مر التاريخ. لم تنجح المؤسسة السياسية الشيعية بتأليف أو توليف منظومة سياسية توحدها ككتلة سياسية متراصة تعمل بعمل الدولة بدل العمل بالحسينيات وخطب النحيب والعويل بمراقد الأئمة بكربلاء والنجف وسائر المحافظات الشيعية الأخرى بالعراق. مرجعية هذه الأحزاب الشيعية الضيقة تدعي الخضوع للمرجعية الدينية التي يمثلها المرجع الديني الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني.
*كاتب عراقي من أسرة الصباح الجديد