اسحق دويتشر و»المسألة اليهودية» لكارل ماركس

شكيب كاظم

لقد استأثرت المعضلة اليهودية باهتمام المفكرين والباحثين، ومنهم كارل ماركس، إذ خصها بكتاب عنوانه (المسألة اليهودية) وقد زاد الاهتمام بها منذ الدعوة لإنشاء الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين، التي قادها الداعية الصهيوني (ثيودور هرتزل) والتي تبلورت بعقده المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة (بازل) السويسرية سنة 1897 ومن ثم شد الرحال نحو السلطان العثماني عبد الحميد، إلا أن السلطان لم يلب دعوته، ذاكراً أن أرض فلسطين ليست ملكاً لي كي أهبك إياها، بل هي أرضٌ أهلها الفلسطينيون، ومن هنا جاءت حملة التشويه والتشويش القاسية لسمعة السلطان، مع أنه لا يكاد يختلف في السلوك والتصرف عن بقية سلاطين آل عثمان.

المعضلة اليهودية
كان من بين الذين أبدوا اهتماماً بالمعضلة اليهودية، المفكر الماركسي البولندي (إسحق دويتشر) بوصفه يهودياً، أو بصيغة أدق بوصفه من أصول يهودية، ولد في مقاطعة كراكوف سنة 1907، وتوفي في روما في 19 من شهر آب/أغسطس 1967 والف كتاباً عن (ستالين) كما درس (ليون تروتسكي) بكتاب في ثلاثة أجزاء، فضلاً عن كتابه المكثف والمهم (اليهودي اللايهــودي.the non-Jewish Jew) الذي استأثر باهتمام الباحثين في الوطن العربي والقراء، وكان كتاب الموسم وقد تزامن مع تداعيات كارثة الخامس من حزيران/يونيو 1967. ومما زاد في أهمية الكتاب، فضلاً عن درسه المعضلة اليهودية من أوجهها المتعددة، إنه يدير حديثاً عن (الحرب العربية- الإسرائيلية) واضعين في حسباننا أنه توفي بعدها بشهرين ونصف الشهر.
في كتابه المهم هذا، يتحدث دويتشر عن عديد الشخصيات الفكرية والفلسفية والنفسانية والسياسية اليهودية: سبينوزا، وماركس، وروزا لوكسمبرك، وتروتسكي، وفرويد، وإن ما دفع دويتشر إلى الوقوف عندهم، إنهم جميعاً تخطوا حدود اليهودية، لأنهم وجدوها ضيقة ومقيدة (..) لقد تطلعوا إلى مثل وإنجازات تتخطاها، فهم حصيلة وجوهر كل ما هو عظيم في الفكر الإنساني، مع أنه يؤكد أنه لا يؤمن بعبقرية محصورة بعرق أو بسلالة، مع ذلك فقد أحتفظ هؤلاء بيهوديتهم بصورة أو بأخرى (..) لقد مكنهم هذا الأمر من الارتفاع بفكرهم فوق هذه المجتمعات،(..) وأن يجولوا في عقولهم آفاق عريضة جديدة، وبعيداً نحو المستقبل’ ص10-11.

الأوروبيون واضطهادهم اليهود
لقد تعرض هؤلاء لشتى أنواع الأذى، والسبب يعود إلى كونهم أقلية تفتقر إلى (الجذور) كانوا قوماً هشين سريعي التكسر، فحرمهم الحاخاميون من العودة إلى اليهودية، واضطهدهم القساوسة المسيحيون، وتعرضوا لملاحقة شرطة الحكام المستبدين، ولكراهية الناس المتعصبين.
لقد عانى اليهود كره المجتمعات التي عاشوا فيها، ولا سيما في أوروبا الشرقية، لابل حتى في بريطانيا الليبرالية، لعل من الصعوبة أن تجد مسكنا لك في حي هامبستيد بلندن، لأنك ستجابه برد، أن الجيران لا يرغبون في سكن زنجي أو يهودي في حيهم! واضعين في الحسبان أن هذا الذي يذكره دويتشر إنما يعود إلى سنوات الأربعين من القرن العشرين، لكن هناك لمحات تدل على تعايش واحترام الآخر وقبوله، إذ تجد أن مجلس العموم البريطاني يقبل الملياردير ليونيل دي روتشيلد، أول عضو يهودي فيه، وإن كنت أرى أن أمواله الطائلة هي التي عبدت طريقه نحو مجلس العموم!
لكن مما فاقم المعضلة، صعود نجم الرايخ الثالث والنازية الهتلرية (1933 ـ 1945) وتصاعد عمليات الفصل العنصري التي مارسها ضد اليهود، وحرق حتى كتب روائييهم وفلاسفتهم، واصفا (كوبلز) وزير إعلام هتلر هذه الحرائق، بأن من رماد نارها ستبزغ روح الشعب الألماني وتتألق، مما أدى إلى تنامي الرغبة الجامحة بضرورة إيجاد الوطن البديل الخاص بهم، وتبلور الروح القومية اليهودية وتأججها.

ستالين والمعضلة اليهودية
ويعقد المفكر إسحق دويتشر في كتابه هذا (اليهودي اللايهودي) فصلا مهما عنوانه (الثورة الروسية والمشكلة اليهودية) يبدأه بالسؤال: لماذا لم تنجح الثورة الروسية في حل المشكلة اليهودية؟ ولكي تكون إجابته موضوعية وعلمية وبعيدة عن الهوى، فإنه يقرر أن على الباحث أن يؤكد حقيقة مفادها أن ثمة بونا شاسعا في أوضاع اليهود في أوروبا الغربية، إذا ما قورنت بأوضاعهم في الشرق الأوروبي، واضعين في الحسبان أن اليهود ظلوا يحيون في مجتمعات مدينية منعزلة، وما استطاعوا مغادرتها نحو حياة الريف، ومزاولة الزراعة مثلاً، ظلت هذه الخصيصة اليهودية شاخصة ومؤثرة، حتى بعد إنشاء الكيان الصهيوني، وظلت الكيبوتزات والهستدروتات تعاني نقصاً في الأيدي الزراعية العاملة، التي هي بمثابة مزارع تعاونية، لا بل حتى التجربة التي أوعز بها ستالين، في مسألة تأسيس مواطن خاصة باليهود السوفييت، تكون بديلاً عن حلم اليهودي بأرض الميعاد، فشلت هذه الفكرة بسبب البيروقراطية وترهل الجهاز الإداري وتكاسله، فضلا عن أن الوطن المقترح (بيروبيجان) ، كانت أراضي مهجورة، بعيدة عن المدن وتقع على الحدود مع الصين، وجوها رطب وحار تنتشر فيه الحشرات والبعوض. وهنا أود الإشارة إلى الدراسة القيمة التي كتبها الباحث العراقي الرصين نجدة فتحي صفوة (1923 ـ 2013) لدراسة هذه التجربة وعنوانها (بيروبيجان. التجربة السوفييتية لإنشاء وطن قومي يهودي) صدرت طبعته الأولى سنة 1973 عن مركز الدراسات الفلسطينية بجامعة بغداد.
لقد كان الرأي السائد في روسيا، إن إسقاط الحكم القيصري، سيكون بداية لإزالة كل المظالم التي عاناها اليهود في روسيا، لذا كان لهم دورهم المؤثر في ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 مع البلاشفة، وإذ تقرأ كتاب (عشرة أيام هزت العالم) للصحفي الشيوعي الأمريكي جون ريد (1887-1920) وهو تسجيل لوقائع الأيام القليلة التي سبقت انتصار البلاشفة، لتعجب من حرية الصحافة الواسعة وكثرة الأحزاب، وحرية التظاهر والنقاش داخل مجلس الدوما، أقول وأمسى ليون تروتسكي، القيادي اليهودي في الحزب البلشفي الشيوعي، قائدا للجيش الأحمر، وحصل اليهود على الكثير من الوظائف المهمة في الجيش والأمن والوظائف العليا، لكن الخلاف الذي نشب بين قطبي الثورة، ستالين وتروتسكي الداعي للثورة العالمية، وتصدير النموذج الروسي لشعوب الأرض، جعل ستالين على الرغم من تشدقه بمقولات الأممية، يحاول تغيير الدفة نحو بعث النزعات القومية والوطنية في نفوس الروس وتأجيجها. إذ اتهم اليهود بقلة الشعور بالمواطنة، لأنهم شعب من غير وطن، وانهم أمميون بلا جذور وطنية.
ما كانت الحكومات والحزب مسؤولين فقط عن فشل الثورة الروسية في حل المشكلة اليهودية، بل كان الناس وما وقر في أذهانهم من صورة المرابي اليهودي الذي يستغل جهد الناس، فضلا عن اتهامهم بقتل السيد المسيح، وظل هذا الرأي يسعر في الفكر الجمعي المسيحي قرونا متطاولة، حتى أبطله البابا يوحنا الثالث والعشرون، إذ رأى أن من غير العدل أن نسحب جريرة قوم على أسلافهم، وصدرت وثيقة تبرئة اليهود من دم السيد المسيح وعدم توريث مسؤولية دمه خريف سنة 1965. وفاقم من فشل هذا المشروع ضيق أفق ستالين وقسوته، ولاسيما جرائم التجميع القسري، ومأساة التطهيرات الكبرى، وسوق الجموع الغفيرة إلى معسكرات الاعتقال، وظلت نظرية المؤامرة مستحوذة عليه حتى أخريات أيامه، إذ أعلن مؤامرة الأطباء في شهر كانون الثاني 1953 بادعاء محاولتهم تسميم كبار القادة في الحزب الشيوعي والدولة، وهو ما نفاه جورجي مالنكوف الذي تولى السلطة خلفا له!
وعلى الرغم من اعتراف ستالين بالكيان الصهيوني سنة 1948 لابل إن مندوبه في الأمم المتحدة كان أول من أعترف به، وعلى الرغم من تسليحه عصابات الهاكانا، التي كان يقودها مناحيم بيجن بالأسلحة الجيكية- كما يؤكد- إسحق دويتشر، ظل ستالين مرتاباً في ولاء اليهود للدولة السوفييتية، وواصل اضطهادهم واتهامهم بشتى التهم، ويختم دويتشر فصله هذا بتوجيه سؤال إلى ستالين:»كيف يمكن أن يوجد في روسيا، بعد مضي سنوات عديدة على الثورة، من يشك في ولائهم للنظام السوفييتي؟ وإذا كانوا غير أهل للثقة ألا يتوجب، عندئذ، توجيه اللوم إلى الحكومة السوفييتية بدلاً من اليهود؟ فلو سأل ستالين نفسه هذا السؤال فهل سيعترف بأن حكمه وتحريفه للثورة هما الملومان؟». ص60

كارثة 1967
المفكر الماركسي المنصف، المتطابق مع ذاته، إسحق دويتشر وما يؤكد صدقه ونزاهته، إنه تعرض لكثير من الأذى، حتى من حزبه، لأنه كان يجاهر بالرأي الصريح، عاش تفاصيل كارثة الخامس من حزيران 1967 فكتب فصلا عنها، واضعا وزرها على القادة السوفييت: كوسيكن وبريجنيف وبودكورني، الذين ورطوا عبد الناصر في هذه الحرب، حيث رأى منهم تجاوبا خفيا، ولا سيما في طلبه انسحاب القوات الدولية المرابطة في صحراء سيناء منذ نهاية حرب السويس خريف 1956 لكن الخطأ القاتل- كما أرى- الذي ارتكبه عبد الناصر، غلقه مضايق تيران الذي عدته إسرائيل خنقا لها وعلى إثرها شكلت وزارة حرب في الأول من حزيران، لكن تزيين إدارة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون للكيان الصهيوني للقيام بالضربة الأولى، وما يقال- كما يكتب دويتشر- عن اجتماع السفير السوفييتي بالرئيس ناصر ليلة الخامس من حزيران، والطلب منه عدم البدء بشن الحرب، هو الذي أحدث الذي حدث، لكن دويتشر، يحدس وقد صح حدسه، قائلا: لقد اتعظ المصريون بالدرس الذي لقنتهم إياه إسرائيل، في المرة القادمة، من المتوقع أن يوجه طيرانهم الضربة الأولى». ص108
وهذا ما حصل حقا في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 وتحطيم خط بارليف.

لا مستقبل للدولة العبرية
ينظر دويتشر بقتامة إلى مستقبل الدولة الصهيونية، فضلا عن نشوئها، كما نظر النظرة ذاتها فيلسوف التاريخ ارنولد توينبي، فهو يرى أنها جاءت في الوقت غير المناسب، وإن إنشاء دولتهم جاء استكمالا للمأساة اليهودية، هو لا يرفض الدولة الإسرائيلية فقط، بل كل الدول القومية، داعيا إلى كيان شرق أوسطي، يعيش فيه العرب واليهود بكرامة، لأن عيش إسرائيل في وسط كاره لن يجعلها تحيا باطمئنان «في إسرائيل يصعب تجنب التحديق الجنوني: فحيثما تذهب فإنك دائما على حدود أخرى: أنظر، فوق هناك على التل يوجد سوريون! عبر هذا الوادي يتسلل عرب الأردن ليلة بعد أخرى! فوق هناك تقوم الخفارة المصرية! احذر هذا الممر هنا، إنه يقودك رأسا إلى لبنان على بعد ثلاثين ياردة من هنا!(..) إننا لا نعبر هذا الطريق بعد الغسق! فهو ملتصق بالحدود، وفي القدس أخذني موشى شاريت، رئيس وزراء إسرائيل ووزير خارجيتها إلى نافذة مكتبه واراني شريطا من الأسلاك الشائكة، إن الحدود الأردنية- الإسرائيلية على مرمى حجر من هنا، وما على وزير الخارجية إلا أن يرفع رأسه من مكتبه كي يواجه (عدوه)». ص82،83.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة