من المؤكد أن ثمة تغيرات كبيرة في وعي المجتمع الدولي عن القضية لفلسطينية والصراع في المنطقة، ارتبطت بجملة كبيرة من التغيرات، منها ما له علاقة بطبيعة الصراع، ومنها ما له بالتحولات في الإقليم المحيط وبالسياسة الدولية بنحو عام.
المحصلة مع ذلك أن هذه التحولات في السنوات الأخيرة لا بد من أن تثير قلقنا كفلسطينيين، لأنها تشير إلى مستقبل غير واضح تجاه مواصلة تدخل هذا المجتمع لصالحنا. ومع مواصلة الدبلوماسية النشطة والحراك السياسي في المنظمات الدولية ولدى الدول الصديقة، وتثبيت المواقف وتوسيع دائرة المساندين، فإن ثمة قلقاً على جودة هذا الإسناد وفعاليته، الأمر الذي يتطلب فهماً أعمق لما يجري وللتحولات في هذه المواقف.
ليست مواقف ترامب وليدة اللحظة، ولا هي مجرد مواقف شخصية لإدارة جديدة حملت معها وعوداً خلال دعايتها الانتخابية. كما سيكون من تسطيح الأمور الافتراض أن ما تعبّر عنه هذه الإدارة ليس بأكثر من مواقف آنية، إذ يجب الافتراض، في سبيل تطوير إستراتيجيات لمواجهتها، أن هذه المواقف قد تدوم وقد تتصاعد، وهي على كل حال في تصاعد واضح، فمن القدس، حتى وكالة الغوث، حتى تمويل ومساعدات السلطة، ومحاولة فرض صفقة القرن عبر بوابة غزة، ضمن جهود أوركسترالية متناغمة. إلى جانب ذلك، يجب عدم الافتراض أن هذه الانهيارات ستقف عند جدار واشنطن ولن تتعداها ربما إلى بعض دول أوروبا، خاصة في قضية وكالة الغوث وتحويل تفويضها إلى المفوضية الأممية للاجئين.
في أقل تقدير يجب العمل من أجل محاصرة مثل هذه الانهيارات. صحيح أن ثمة مناعة في مواقف بعض الدول، لكن كما يقول الطب، فإن عدم العناية والاهتمام الكافيين يدمران أقوى مناعة.
المعركة يجب ألا تتوقف عند واشنطن، يجب توسيع الجبهة حتى تشمل أي محاولات من قبل إدارة ترامب للتأثير على مواقف بعض الدول التي تحظى عندها بدلال واضح. وربما أن بعض دول أوروبا الشرقية التي حاولت السير حذو واشنطن في نقل سفاراتها إلى القدس، يؤشر إلى ممكنات نجاح واشنطن في تطوير قناعات متنامية في أوساط القوى الفاعلة بالسياسة الدولية، تعمل على سحب الاهتمام الدولي في قضايا هي في جوهر الصراع. منها مثلاً قضية وكالة الغوث، وإثارة النقاش على نقطتين مركزيتين. تتمثل الأولى في تعريف اللاجئ أو بالأحرى بإعادة تعريفه في المتأثر المباشر من فعل التهجير، وبالتالي تقليص العدد، وبعد بضع سنوات انهارت أعمال وكالة الغوث بنحو كامل، وهذا الطرح قد يلقى آذاناً عند البعض، خاصة إذا ما تم ترويجه ضمن نسق إعلامي ودبلوماسي برلماني نشط. وتتركز الثانية التي يتم تقديمها بوصفها أقل حدة والخطة «ب»، ولكنها المرغوبة في نهاية المطاف بتحويل تفويض الوكالة إلى هيئة اللاجئين في المنظمة الدولية، وبالتالي إزالة الشاهد الوحيد على قضية العودة. لأننا سنصبح لاجئين مثل اللاجئين الذين يهجرون بسبب الخلافات على المخدرات أو الصراعات العرقية.
هذا قد يكون وارداً في جملة من السيناريوهات التي بمقدمتها التحول اليميني في أوروبا، خاصة مع الانتخابات في العامين القادمين ومواصلة إدارة ترامب ضغطها في كل الاتجاهات من أجل تنفيذ وعودها. صحيح أن الممانعة الفلسطينية كفيلة بإفشال كل جهود ترامب، لكن إدارة الرجل الجديدة تشعر بالتحدي في هذا الجانب، وهو ما يتطلب توسيع الجبهة مرة أخرى من خلال الجمعية العامة، كما سيفعل الرئيس في خطابه المقبل من أجل إشعار العالم بأن المقصود ليس تصفية القضية الفلسطينية، بل إعادة الصراع إلى نقطة اللهب، وعندها على المجتمع الدولي أن يفكر جيداً في عواقب مغامرات ترامب. لكن المؤكد أن أي تحولات في السياسة الأوروبية قد تخلق مناخات تساعد في نشر أفكار إدارة ترامب المسممة بشأن الصراع وجدوى الاستمرار بالتدخل فيه ضمن نسق الحساسية العربية الفلسطينية، خاصة مع حقيقة أن السياسة الإقليمية في المنطقة لم تعد مرتبطة بأجندة الصراع، بمعني أن مشكلات المنطقة العربية لم تعد فلسطين، في الأقل فيما يظهر منها على السطح، في قلبها، ولم تعد المحدد الأساس في ترسيم علاقات دول الإقليم مع العالم وقواه الكبرى. بل عن أن بعض الدول العربية الكبرى باتت على علاقات علانية أو سرية ومنها ما يصل إلى التعاون في قطاعات أمنية وعسكرية مع إسرائيل، فلا يمكن أن يكون العالم كاثوليكياً أكثر من البابا.
وتعد هذه من جملة التحولات التي عصفت بالمجتمع الدولي، والتي أشرنا على هذه الصفحة في أكثر من مقال إلى ملامحها التي تشمل ضمن أشياء كثيرة انشغال العالم بمشكلات أخرى باتت تهدد أمن دوله، خاصة الإرهاب العابر للدولة الوطنية ونفوذ أذرعه ومقدرتها على المساس باستقرار هذه الدول.
مرة أخرى لا يرتبط هذا بأي حال بالقضية الفلسطينية، بل إن الفاعلين فيه لا يأتون على ذكر فلسطين في أي من خطاباتهم. بكلمة أخرى فإن التحولات الدولية مرتبطة بمواقف الإقليم وبتأثر الدول الكبرى ومصالحها بتفاعلات الصراع العربي الإسرائيلي، حتى أن مصطلح الصراع العربي الإسرائيلي كاد يختفي من النقاش. السيد ميلادينوف هو ممثل الأمين العام لعملية السلام في الشرق الأوسط ولم يعد همه إلا غزة مثلاً. وهذا يخبرنا الكثير عن الأجندات المتدحرجة للمجتمع الدولي وللفاعلين فيه.
خلاصة ذلك أن ثمة حاجة لقراءة التحولات التي تجري وفهمها والوقوف على مكامن التأثير فيها مستخدمين كل الوسائل والسبل، كما أن هناك حاجة لمواصلة الهجوم السياسي ليس لصد الصفقة وإفشالها وهذا أساس أي معركة، ولكن لتحصين جبهة التأييد الدولي حتى لا تنجح جهود تل أبيب وواشنطن بالتأثير على قوى أخرى في العالم.
حتى يظل ترامب وحيداً
التعليقات مغلقة