يكتب ياسين النصير في نصّيات(السيميولوجيا الاجتماعية) ليعرّفنا على فقه الأمكنة، يصطنع لها نصاً مجاورًا، وأطلساً ثقافياً لاحدود له سوى المعرفة، وبما يُعطي للمفاهيم والمصطلحات المطروحة توصيفا يتجاوز ما هو واقعي الى ما هو ثقافي..
العلاقة بين الواقعي بوصفه مكانا، وبين الثقافي بوصفه نصا مقروءا هو الفضاء الذي يجتهد النصير في توصيفه، وفي استكناه معانيه وأنساقه العميقة، وبما لا يجعله تلفيقا، أو إكراها، إذ يسعى الناقد النصير الى وظيفة الأركيولوجي، لممارسة لعبة الحفر الثقافي، حيث تتخلى النصوص من وثائقيتها، وصلادتها لتبدو أكثر انفتاحا أمام مغامرة القراءة، بوصفها لعبة في إعادة فحص للكتابة، أو حتى في الافصاح عن ما يشبه الشكِّ بالنصوص ذاتها..
القراءة عند النصير هي وظيفة في هذا الشكِّ، وفي توسيع وظائف الخطاب الدلالي، وتجاوز ماهو بداهي ومشاع، وخاضع للنوايا، وأحسب أنّ هذه القراءة هي العنصر الفاعل في (التدمير) المعرفي، أو حتى بمعنى آخر في القطيعة المعرفية كما يسميها غاستون باشلار..
فالحديث المُكرّس عن وظيفة الدال والمدلول يبقى منظورا لسانيا، وحتى بلاغيا من جانب آخر، لكن النصير يعمل على ترحيل هذه الثنائية الى فضاءات أخرى، تتعلق بثقافوية النظر الى الأمكنة، وخطابات الهامش، والجسد، والفوتوغراف والمنصّة، والإعلان، والأزياء، والرسائل وغيرها..
يكتب النصير عن الرسائل في سياق تداول هذه الثنائية، وبما يُعطيها وظيفة تتجاوز ما هو إبلاغي الى ما هو ثقافي، فهو يقرأ هذه الرسائل بوصفها( نصا سيريا، وتحمل الرسائل مهما كان دفؤها جزءا من السيرة الذاتية لمؤلفها، وجزءا مضمرا من السيرة الذاتية للمرسل اليه)
هذه الوظيفة الثقافية تعني تجديدا بأدوات الناقد، حيث يفقد النص الأدبي القديم قدسيته وشروطه، ليجد الناقد فيها حافزا على البحث عن نص مجاور، نص يومي، هامشي، له علاقة بتغيرات المكان، وتقانة الاتصال والتداول، مثلما له علاقة بالاستعارة والمتعة والفهم والتفسير والأثر، أي ما يجعله أكثر استيعابا للتخيّل، والتأويل، لأنّ هذا التأويل سيحرّض على الفهم، وعلى التخلّص من هيمنة البلاغة اللسانية، وبإتجاه البحث عن بلاغات يمكن أنْ تلامس الجسد ولذته وحضوره وعلاماته، ويمكن أنْ تساعد على تجديد ميكانزمات القراءة بالتاريخ، بما فيه التاريخ الصياني للنصوص ذاتها، وحتى مايدخل في سياق الوثائق والمدونات الراكزة في اللاوعي الجمعي، والشعبوي بنحو خاص..
كتابات ياسين النصير الجديدة تفتح أفقا شجاعا ومغامرا للقراءة، وللتأويل، ولابتكار مستويات مفارقة لهما، إذ إنها تفترض وعيا جديدا، وصادما، والذي سيحتاج بالضرورة الى قاموس جديد، والى تقانات حفر أكثر مهارة، وأكثر قصدية، فالنصوص المُباحة، وحتى أغراضها المُباحة على طريقة الجاحظ، لم تعد كافية لتأطير الوظيفة الثقافية، وحتى لتجديد الوظيفة الأدبية بنحو خاص، لأنَّ هذه الوظائف ستجد نفسها أمام تغيرات كبرى، واستحقاقات لها علاقة- غير محمية) بالمعرفة والفهم والتأويل، بما فيها مايتعلق بأدوات الناقد الأدبي الباحث في أدبية النص، والناقد الثقافي الباحث في الأنساق المُضمرة للنص، إذ تعني الحاجة الى التجديد، وجود(منصّة) جديدة كما يُسمّيها النصير، الغاية منها توجيه الخطاب، والسيطرة على موجّهاته، وحتى على لعبة فهمه، وتأويله، فضلا عن تنشيط كشوفاته وحدوسه ومهارته في تحسيس الثقة باللغة بوصفها حاملة الخطاب وبيت وجوده كما يقول هيدغر…
علي حسن الفواز
ياسين النصير ولعبة صانع الخطابات
التعليقات مغلقة