في مثل هذه المناخات من التشرذم الطائفي والإثني المهيمنة على المشهد الحالي، يصبح أمر الاتفاق على العيد الوطني للعراقيين جميعاً، قراراً متنافراً وأبسط شروط العقل السليم. فبعد فشل اختيار مجلس الحكم الانتقالي لمناسبة زوال النظام المباد في التاسع من نيسان عيداً وطنياً للعراق، هرولتم مجدداً في العام 2008 لتغيير مناسبة العيد الوطني السابق (14 تموز ولادة العراق الجمهوري) لتنقلوه الى اليوم العاشر من شهر تشرين الأول (قبول العراق في عضوية الأمم المتحدة العام 1932) من دون أن تلتفتوا لحجم اهتمام العراقيين بهذه المناسبة، وها أنتم تعودون ثانية لتغييره بيوم آخر، إذ رفعت الأمانة العامة لمجلس الوزراء قبل أيام توصية لمجلس النوّاب؛ بجعل يوم الإعلان عن تحرير أرض العراق من تنظيم داعش الإرهابي، الموافق في العاشر من كانون الأول العيد الوطني لجمهورية العراق وعطلة رسمية من كل عام. مثل هذه القرارات في التعاطي مع المناسبات والرموز والرايات الوطنية، تعكس حقيقة أولويات واهتمامات الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد أمور عراق ما بعد “التغيير”. غالبية هذه الكتل (من شدة تقواها) حرصت على بقاء راية النظام السابق (العلم الحالي) تحت ذريعة وجود لفظ الجلالة فيه، كما أبقت النشيد الوطني السابق (موطني) والذي كتبه شاعر فلسطيني حنيناً لمدينته (نابلس)، وحده العيد الوطني الذي خلّد ولادة الجمهورية الأولى هو من أثار حماستهم وهمتهم للتغيير..!
إن قدّر لسكان هذا الوطن القديم استرداد هويتهم الوطنية والحضارية وإرثهم المشرق المرصع بالتنوع الثقافي والتعددية السياسية والاجتماعية، وتمكنوا من اجتياز هذه المحنة من الضياع والتشرذم الذي يعيشونه، فسيكون حل مثل هذه القضايا يسيرا ومتناغماً مع ذلك. أما جعل مناسبة الإعلان عن استرداد المناطق والمدن التي فشلنا في حمايتها صيف العام 2014 من يد عصابات داعش الإجرامية؛ عيداً وطنياً لجمهورية العراق؛ فسينقل عنا رسالة غير مناسبة ولا تنسجم مع ما يحمله هذا الوطن القديم من إرث عريق وتطلعات حضارية مشروعة. آمل أن يتريث القائمون على مثل هذه الأمور مستقبلاً، وأن يلتفتوا الى الكثير من الملفات الحيوية التي ما زالت تنتظر اليد التي تنتشلها من أضابير النسيان.
لقد تم استرداد المناطق والمدن من داعش، ويفترض الشروع بتأسيس شروط ومناخات جديدة، لا تسمح بجر العراق الى جولات أخرى من النزاعات والحروب، فالانتصار الفعلي يتجسد بقدرتنا على صنع السلام الأهلي واسترداد ثقتنا ببعضنا البعض الآخر عبر امتلاك المؤسسات الديمقراطية الحقيقية لا المزيفة والقائمة على أساس المحاصصة الطائفية والإثنية والقبلية والولاءات العقائدية الضيقة، ومعايير ما قبل الدولة الحديثة وتشريعاتها المجربة. ذلك هو التحدي الذي فشلنا في مواجهته منذ اللحظة الأولى لزوال النظام المباد ربيع العام 2003. نعم سلطة داعش المباشرة على تلك المدن انتهت، لكن الشروط والمناخات والاصطفافات التي أوجدت داعش وغيرها من العصابات الدينية، ما زالت قائمة وتحتاج الى أكثر من الأعمال العسكرية لقصم ظهرها وتجفيف منابعها وشروط ديمومتها. عندما ننتهي مما تبقى من مسلسل الحروب والعسكرة التي ابتلينا بها من دون خلق الله، وعندما نشرع في إعادة اكتشاف قدراتنا ومواهبنا في مجال التنمية والبناء وإنتاج الثروات المادية والقيمية، حينها لن نختلف كثيراً في الاتفاق على تسمية مناسباتنا ورموزنا الوطنية والحضارية الجامعة..
جمال جصاني
رفقاً بالعيد الوطني..!
التعليقات مغلقة