عبد السادة جبار
تحفل مختبرات السينما العالمية بتجارب فنية متنوعة تحقق بعضها انعطافات مميزة قد تصبح منهجا جديداً أو تمر مرور الكرام ولا تحظى بذلك الاهتمام الذي ينقلها من حقل التجريب إلى حقل القاعدة، وغالباً ما ينهض بهذا العبء المخرجون المؤلفون وأحياناً يشترك هؤلاء أنفسهم في الإنتاج؛ لعدم اطمئنان المنتجين إلى هذا النوع من المجازفات خوفاً من هدر المال وضياع الثروة؛ لأن الفنّ السابع يختلف عن أخواته الست بكونه يخضع لقانوني الصناعة والتجارة وعمليات الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك، لكن ذلك لم يمنع التجريبيين والطليعيين من المخرجين للابحار ببضائع سينمائية قابلة للكساد والانتشار الكبير المفاجئ الذي لم يحسب له أي حساب، أفلام الخيال العلمي والفلسفة والفكر تقع ضمن تلك البضاعة الثقافية التي تحتاج الى قدرة في المجازفة، لكنها إن لم تحقق ربحاً أو تصاب بالخسارة، فهي تربح جمهوراً يمنح المخرج والتشكيل الفني الذي يديره انتباهاً مميزاً من خلال النقد والتساؤلات التي يدفعها الفضول للوصول للمعنى والغاية. يعدّ بعض النقاد المخرج «تيري جيليام» من السينمائيين غريبي الأطوار؛ لأنه يستعمل في أفلامه مواضيع كثيرة من الأفكار الفوضوية والعبث، حيث يعبر عنها باستثمار أجواء تنم عن خيال مشوش وسلوك خارج الواقع وقريب من الجنون، ويتضح من شخصياته اضطراب سلوكي ومعاناة من أزمة وجودية. نال جيليام الثناء عن أفلامه الغريبة وأعماله الخيالية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي مثل فيلم «البرازيل» العام 1985 و»اثني عشر قرداً» العام 1995، وقد حاول أن يقدم فيلماً عن الرواية الاسبانية « دون كيشوت «، إلا أن مشروعه قد تعثر ولم يحقق ذلك. يعود العام 2013 ليقدم فيلمه الأخير «نظرية الصفر» الذي وصف كأنه تكملة لرؤياه في فلميه السابقين، حيث ترتكز بشأن نظرة هجائية ساخرة من التطور والنمو المستقبلي وتحمل نقداً مريراً من المجتمع الاستهلاكي المصاب بجنون السعي المحموم نحو الرفاه المزيف والمخدوع بوسائل الإعلام الكاذبة والمراقبة والمسيطر عليها من قبل تحكمات الهيمنة الخارجية والتي تحولت الى سلطة تريد أن تحرفه عن الوصول إلى الحقيقة.
الفيلم يصور الإنسان بوصفه وسيلة تعيش لتحقيق غايات أخرى لآخرين من أجل أن ينهي يومه من دون مصاعب، يقدم الفيلم لوناً سينمائياً جديداً يتمحور حول الفلسفة الوجودية والحرية, ويحاول بطل الفيلم التخلص من المخاوف النفسية لإنسان الألفية الثالثة الذي يظهر كأنه جسد بلا روح.
سيناريو الفيلم
«كوهين ليث» الممثل النمساوي (كريستوفر فالتز) عبقري الكمبيوتر المنعزل الذي يتقاتل مع معادلة رياضية مستعصية؛ لإثبات إن الصفر صفر بنسبة (100%) في معركة عصرية تسمى معركة تحطيم الأرقام، ينتظر كل يوم مكالمة من أحد يحقق فيها مبتغاه في الوقت الذي يعمل في شركة برامج حاسوب توفر ألعاب ترفيهية، سعيه هذا يزعج إدارة الشركة لأن الوصول إلى تلك النتيجة تطيح بشكل من الأشكال بأعمالها، فيحاول أحد العاملين فيها زجه بأعمال وانشغالات أخرى تلهيه عن هذا الاتجاه وتحوير ذكائه ليصب لصالح نشاط الشركة ولهذا تسلط عليه الكاميرات في أي مكان يحل فيه، ليث مختلف عن الآخرين الذين يعيشون من أجل المتعة والرفاه، المدينة تمتلئ بالإعلانات والألوان البراقة والدعوات لاستغلال فرص الترفية والكل يهرول باتجاه العمل من أجل نيل الرفاه بعيداً عن معنى الوجود الحقيقي، إذ ينفر ليث ويفضل العيش في منزل قديم يوصد بابه بعدة أقفال بهدف العمل من أجل تحقيق انجازه المهم كي يخترق حصانة عالم التحكم الرقمي، يتعرف على صبي تشغله الإدارة لانجاز العمل نفسه فيبدي أفكاراً عبقرية لكنه يشعر ليث بالعجز، ترسل له الشركة فتاة جميلة مبرمجة بطريقة ما «بانسلي» (ميلاني تيري) تنقله عبر برنامج خاص إلى حياة أخرى خارج الأمكنة الباهتة إلى جمال الطبيعة ومتعة الحب التي لم يجربها، ويسبح بطل الفيلم في موجة جديدة من العاطفة والجمال الطبيعي ليحرر ذاكرته العقيمة والتي تفتقر للخيال الإنساني في إشارة لمدى الفراغ العاطفي الذي يعيش فيه في ظل التكنولوجيا القاسية، لكن ليث يكتشف بأن بانسلي قد أرسلت لتقوم بعمل مقابل إغراء بثمن ليصدم بحقيقة أخرى حيث يشعر بالحصار، إلا أن بانسلي تعود إليه نادمة وتعترف بحبها له وتطلب منه أن يرافقها ليهربا معاً لكنه يرفض ذلك، وفي الوقت نفسه يكسب حب الصبي وصداقته ويتفقا لكسر ملل العمل ليخرقا الرتابة للقيام بنزهة غير إن ذلك ينجم عنه مرض الصبي فيقرر ليث معالجته بعيداً عن علم الشركة فيقوم بتحطيم جميع كاميرات المراقبة ويغلق الأبواب، إلا إن الإدارة تصل لتأخذ الصبي ويبلغه المدير بأنها قد استغنت عن خدماته وانه لم يعد نافعاً وليس ضاراً، يحطم الأجهزة التي يعمل عليها وتنفتح له كوة بلا نهاية ليرمي نفسه فيها ويجد نفسه بعيداً عن ذلك العالم وحيداً مع عالم جديد افتراضي يعشقه.
المعالجة
من الصعب إن يصنف هذا الفيلم على انه من الخيال العلمي أو الدراما أو أفلام الحركة؛ لأنه لا يناقش حقيقة علمية واضحة وليس ثمة دور للحركة فيه كما في فيلم ماتركس ولانسغ، لكننا يمكن أن نعدّه من الأفلام التي تحمل طابعاً فلسفياً للحياة المعاصرة والمستقبلية، مع انه لايوجد تصنيف من هذا النوع في فن السينما. الفيلم اعتمد على عناصر أساسية: الديكور والأزياء والألوان والحوار والتصوير، مُنحياً جانباً تشويق الأحداث والعناصر التقليدية الأخرى، لقد أنفقت ميزانية الفيلم على مايبدو على الديكور الباذخ والخلفيات لوصف الأمكنة العصرية بما يوحي بزمن متقدم ومناقض لما يعيشه البطل، ولعب الحوار المسرحي دوراً مهماً في الأفكار التي أراد الفيلم توصيلها للمشاهد، وقد صور جيليام أغلب مشاهد الفيلم بكاميرات ثابتة، كأنه يصور عملاً مسرحياً بالرغم من اعتماده على تقنيات بصرية متقدمة، الشخصيات التي كانت أطرافاً في نسج موضوع الفيلم كانت كلها غريبة ومميزة بما جعل الفيلم مثيراً للاهتمام، بالرغم من كونها بدت كشخصيات غير عميقة باستثناء البطل الرئيس لكنها تحمل معاني رمزية لتكوينات اجتماعية عصرية مهمشة أو مأجورة أو مستلبة أو متسلطة وذلك جزء مهم من نسيج الفكرة الفلسفية التي طرحها الفيلم.
فيلم «The zero Theorem»، تمثيل: كريستوف فالتز في دور كوهين ليث، ميلاني تيري في دور بانسلي، إخراج : تيري جيليام.