رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 33

حوارات مع جرجيس فتح الله*

انتخب نقيبا للصحفيين في اواخر 1959 خلال اول مؤتمر للنقابة لكنه اسرع بعد خمسة اسابيع فقط الى تقديم استقالته احتجاجا على قرارات الحاكم العسكري بأغلاق الصحف والغاء امتيازاتها بالجملة واعتقال اعداد من الصحفيين بتهم ملفقة واعيد انتخابه في السنة التالية 1960 الا انه كان معتقلا بأمر من الحاكم العسكري العام عندما جرت انتخابات النقابة في العام 1961
هاجمه عبد الكريم قاسم بخطبه وتصريحاته كما هاجم البارزاني وهدده كما هدد البارزاني بالمستمسكات واغلقت صحيفته مرارة وقد انيت الى هذا في المقال الذي قررتم اعادة نشره هنا الان فلا داعي للتكرار وسأقف هنا عند هذا الحد خشية ان يكون قد علق بذهني شيء مما سرده في ذكرياته فأردده هنا من دون قصد .
س/ ذكرتم في حلقات سابقة ان الجواهري كان عضوا مؤسسا لحزب الاتحاد الوطني مع عبد الفتاح ابراهيم وناظم الزهاوي وخلافهما . هل كان ذلك خاتمة نشاطه السياسي حزبيا ؟
كانت هناك محاولة اخيرة لها طرافتها بسبب ما فيها من مقارنة واريد ان استدرك قبل روايتها فأنوه باني وفي العام 1946 عندما كان هناك نوع من مفاوضات بين حزب الشعب وحزب الاتحاد الوطني كنت قد اجتمعت بالجواهري بعد لقاء الناصرية وانا تلميذ له . فأثرت ان لا اذكره بذلك ولم يلح عليه انه تبين بي ذلك الطالب وقد جاءت الفرصة كما ذكرت في مقالي بعد عشر سنوات . اعود الى سؤالك فأقول بعد صدور قانون الجمعيات في 1960 تقدم الجواهري وعبد الفتاح ابراهيم وعزيز شريف وناظم الزهاوي بطلب اجازة حزب جديد باسم “الحزب الجمهوري ” فرد الطلب .
اعترض وزير الداخلية على اصطلاح “الشعب العربي ” و”الشعب الكردي ” اللذين وردا منفصلين في احدى مواد المنهاج . بقوله ان الدستور المؤقت اطلق كلمة “الشعب ” على العرب والكرد معا ، فمنهما يتألف الشعب العراقي . ولا وجه لاستخدام هذين النعتين على الانفراد . واعاد المنهاج للتصحيح فقدم المؤسسون تعديلا باستبدالهم كلمة “شعب ” ب”قومية ” الا ان وزير الداخلية اسرع يرد الطلب بحجة انه لا يملك المعلومات الضرورية عن احد المؤسسين ولم يكن هذا ” المجهول ” منه غير الجواهري . وقد ذكره بالاسم .
اذكر اننا كنا نتابع هذه المناظرة الممتعة على صفحات الجرائد ، متسائلين نرى ماذا كان ينقص وزير الداخلية من المعلومات عن شعر ذائع الصيت اخترقت شهرته حدود بلاده الى سائر الافطار التي تنطق بلغة الضاد وتبارت الصحف والمنتديات في نقل وترديد قصائده وقتما كان هو وزعيمه اسمين حاملين بين اسماء اربعة الاف ضابط في الجيش العراقي ؟
كانت اهانة مقصودة وقحة . ولم يعاود مؤسسو الحزب الجمهوري الكرة . وتلك كانت محاولة الجواهري الاخيرة في دخول معترك النشاط الحزبي .
س/ في المقال الذي اعتمدنا اعادة نشره ضمن هذه الحلقة ، تصديتم بإيجاز وتركيز الى تحليل شاعرية الجواهري وما اظن قراء “خه بات ” سيكتفون بهذا القليل الذي ورد في صحيفة (القدس العربي ) وسيكون من دواعي سرور المثقفين ومحبي ادب الجواهري عندنا ان يتعرفوا الى المزيد وان يطلعوا على راي اخر من جملة اراء في التراث الذي خلفه الجواهري . وربما كانت هذه فرصتنا في رؤية وجه الاديب الناقد منكم ذكرتم في الحلقات الاولى انكم عالجتم الادب وطرقتم ابواب الشعر حبنا .
سأحاول . وقد يصعب علي ذلك وليس بيدي قصيدة واحدة من قصائده ، ناهيك بديوان له . وانا لا استطيع تريد مقطع صغير ، او ان بضعة ابيات متفرقات علقت بذهني لا تغني ولا تصلح نموذجا او دليلا استشهد به وادعم تخريجي ، والفكرة العامة التي تساورني وهي تحصيل حاصل كما يقال ان قصائد الجواهري تجمع في ان واحد صفات وسمات الشعر التقليدي العربي . وصفات التجديد في هذا الفن . اعني انه حافظ بإصرار وعناد على الانماط القديمة .اي الاوزان والقافية ،الا انه شذ عن ظاهرة كثيرا ما وجه بسببها النقد الى الشعر العربي ككل وهي وحدة البيت في القصيدة اي وحدة المعنى . اي ان البيت الواحد من الشعر يؤلف بنفسه فكرة منفصلة عن باقي ابيات القصيدة . مما يلاحظ في شعر الجواهري وحدة القصيدة في اغلب الاحيان .
والشعر العربي هو شعر غنائي بالدرجة الاولى بإيقاع ظاهر في اوزانه وبحوره وقافيته ربما امتاز عن امثاله بهذا ومن شاهد الجواهري وهو يلقي واحدة من قصائده لا اظنه يخرج بغير هذا . كيف يميل ويترنح ويهتز وتعلو نبرات صوته وتخفت ، ويبدو وكانه في حالة جذب وسكر لا يشك قط في انه يسمع غناه لا يعوزه غير الات ايقاع مما يتخذه المطربون ويدهشني فيه تمكنه العظيم من اللغة وامتلاكه مخزونا من المفردات والمترادفات لا ينضب ، مما يسهل عليه اختيار احسنها لاسيما القافية فانت لا تجد نبوا في اي منها وتحس بان اختيارها مطابق تماما لا يكلفه جهدا ، وكثيرا ماكيا الحصان بمشاهير الشعراء فأوخذوا على قلق القافية وكثيرا ما كان هذا القصور سببا للتضحية بالمعنى او المبنى احيانا . ودونك احمد شوقي الذي تبوا الصدارة في عالم الشعر ولقب بأمير الشعراء . وليس بينه وبين الجواهري غير جيل واحد . وقد توفي وللجواهري اثنان وثلاثون عاما وله مكانته في عالم الشعر ، فكثيرا ماخان شوقي البحث عن القافية المحكمة لتلجئه الى اسفاف ، والقافية تأتي الجواهري مطواعة لا تحس لها اي نبؤ . بل نشعر احيانا بان الاعتياض عنها بغيرها قد يفسد البيت بأكمله ، فهي هي وليس غيرها . واني اراه دائما بهذا الالتزام وبهذه الثروة العظيمة من المفردات اللغوية . يقف بين عملاقين من عمالقة الشعر العربي الغاير هما المتنبي (ابو الطيب ) وابن الرومي (علي بن عباس ) وبين هذين وبينه اكثر من عشرة قرون . اولهما بقوة تعبيره واحكام نسجه وامتلاكه ناصية اللغة . والثاني لسهولة وقوة اداء في المعنى واختيار دقيق في التعبير وهو ما تدعوه بالسهل الممتنع واحاطة شاملة بفنون البيان ومفردات اللغة وطول النفس .
نأمل في هذين البيتين اللذين قالهما ابن الرومي في شخص بخيل يدعى خالد .كيف تألقت القافية والمعنى والايقاع بوحدة لا انفصام لها .
يفتر خالد عن نفسه وليس بياق ولا خالد
فلو استطاع لتقتيره تنفس من منخر واحد
وتتجلى الغنائية والايقاع وروعة القافية في ترجمة قام بها الشاعر الفرنسي فكتور هوغر :
قتل امرء في غابة جريمة لاتغتفر
وقتل شعب امن مسألة فيها نظر
لو تأملت الاصل او انشدته لما شعرت بعشر معشار الوقع الذي يخلفه تلاوتك الترجمة وقد بلغت من الدقة حدا انك تستطيع ان ترصف كل كلمة من الاصل تحت مقابلها من الترجمة .
وتعلم ان الشعراء الكرد العظام امثال تالي ، والجزيري وخاني ، والطالباني وغير هم التزموا من الاوزان العربية الكثير ، واخصها نظمهم من بحر (المديد) و(الرمل ) ، والتزموا ايضا بالقافية على قدر اتساع اللغة الكردية لها وهو غنم كبير دفع الشعر الكردي الى مرتبة الغنائية والايقاعية فأصبح كالشعر العربي ينبوعا يختار منه المغنون .
الجواهري وقاسم
وأعود الى الجواهري لاقول ان هذا الشاعر الكبير مازال ينتظر ذلك الناقد والمحلل الجدير به ويفنه الرائع .
اتراه سيكون آخر عمالقة الشعر العربي ؟

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة