علي حسن الفواز
كم نحتاج من الشعر لنطمئن على أنفسنا؟ وكم نحتاج من القلق لنكتب قصيدة واحدة؟ هذه الأسئلة تؤكد ثقافة الحاجة، أقصد الحاجة لكل شيء، ليس لأن الشاعر كائن احتياجات دائمة، بل لأنه الأكثر تورطاً بالقلق والرغبة والغواية والحروب الصغيرة، لذا هو أكثر سكان الحافات بحثاً عن الاطمئنان والحرية والمكان والجسد والطاولة، وربما البحث بهوس عن الأشياء الصغيرة التي تمنحه قدرة على لذة الكشف والانغمار في سحر ما يتساقط منها..
وسط ما يجري الآن من رعب سياسي ومن حروب كبرى لم يطمئن إليها الشاعر، كيف سيكون الحديث عن ثقافة الحاجة، اذ تبدو الكثير من الاطمئنانات غائبة، والأشياء الصغيرة مسحوقة، حتى اللغة التي تعدّ مشجب الشاعر الشخصي، ستكون هي أيضاً مسكونة بالوحشة، وباعثة على الاحساس بالخواء الداخلي، وربما البحث عن قاموس آخر أكثر احتشاداً باستعارات العنف، وأقل نزوعاً للخفة.. إذ لامناص من أن الحرب التي يصنعها الآخرون، ستكون حتماً حرباً غير شعرية تماماً، وليس للغة سوى أن تلبس فيها خوذة المحارب، وقفطان الثوري، وتنزع عن ثيابها الداخلية هسيس الشغف، حتى تبدو أكثر انغماراً بالوضوح، والمعنى الذي هو شرط أنطولوجي من شروط أية حرب برية كانت أم شعرية..
اليوم يستعيد الشعراء بعض هواجس ما قرأوه عن الملاحم، وما ضجت به السير والحكايات والأسفار، وما نضحت به قراطيس الفرسان، حيث تكون الحرب هي المختبر، وهي اللافتة، وهي اللص والمعتوه، وحيث يكون الآخرون هم الضحايا…هذا سيدفع الشاعر اضطراراً لممارسة وظيفة الرائي والحامي وصاحب المشجب والبوق، وأحسب ان التورط في أية وظيفة أخرى ستكون نوعاً من الهرب الى الأمام، أو الوقوع وهماً في لعبة(من ينتظر البرابرة)..
هذه ليست دعوة لحرب شعرية، بالموازاة مع الحروب الوطنية، بل هي دعوة لدفع المكاره بالوعي، ووضع الأشياء في سياقها الانساني والأخلاقي، اذ ليس لحرب الاكراه سوى الاكراه ذاته، وبقطع النظر عن خفايا هذه الحرب، فان القتلة سيضعون جسد الشاعر/ المواطن جسراً للعبور الى الأمكنة، وممراً للوصول إلى المقبرة.. لذا تبدو الحاجة هنا مجساً لإمكانية تشغيل اللغة بوصفها وجوداً، ودفعها باتجاه أن تكون قوة فاعلة، أو حتى معسكراً لإعادة جمع الناس على كلمة سواء كما تقول الفقهيات الأخلاقية.. هذا الجمع ليس بالضرورة موتاً علنياً لفرادة الشاعر، اذ يمكن للشاعر من خلالها أن يرى العالم أكثر بياضاً، وأكثر استعداداً لان يكون وجوداً وتاريخاً وسلالات تنمو بسيولة من دون خرابات تصطاد الفرادة الجمع معاً..
في الحرب ستكون الحاجة للوجود والمعنى أكثر من الحاجة للمجازات، لأنها نوع من المشاهرة، مثلما ستكون تعبيراً عن وعي صياني بهذه الحاجة، وربما تعميقاً لما تحمله من ضرورات لمواجهة القبح، ولدفع الضرر عن المكان الذي يمثل لنا دائماً الوجه الاستعاري للوجود وللغة وللفكرة..